كان ابن رشد يشترط في كل من يتصدى للعلم فقيهاً أو فيلسوفاً أن يجمع أمرين: أحدهما ذكاء الفطرة، والثاني العدالة الشرعية والفضيلة العلمية. ويقصد بالعدالة الشرعية هنا الأمانة العلمية بلغة عصرنا.

وقد اهتم ابن رشد في مسيرته الحياتية والعلمية مطابقاً بين العقل والوجود. ولم يفصل بين الفكر والسلوك كما يفعل كثير من المثقفين المعاصرين. وقال الجابري: مع أن فيلسوفنا كان يقدر الغزالي تقديراً خاصاً ولا يتردد في إنصافه ضد ابن سينا، خصمه، إلا أنه لم يستطع أن يتغاضى عن افتقاره إلى الفضيلة العلمية مما كتب. ولم يترك مؤاخذته عليه والتنديد به، أي غياب الفضيلة العلمية التي يجسدها في سلوكه وقال: إنه لم يهزم مذهباً من المذاهب في كتبه، بل مع الأشعري أشعري، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف.

كان ابن رشد يميز بين الدين والفكر الديني، فالدين حسب رأيه له القداسة المطلقة، أما الفكر الديني، بما أنه فكر بشري في النهاية فلا قداسة له. وإنما يندرج تحت نسبية الحقيقة ويخضع للصواب والخطأ، لذلك انتقد ابن رشد مفكري عصره وفلاسفته وفقهائه، وعلى رأسهم أبو حامد الغزالي.

وعندما كتب الغزالي ضد ابن رشد كتابه «تهافت الفلاسفة» رد عليه ابن رشد بموضوعية بكتاب «تهافت التهافت». ومع أن الغزالي انتهج في كتابه منهجاً يقوم على تكفير الفلاسفة وتحريض العوام والسلطة عليهم، إلا أن ابن رشد فند مقولاته تفنيداً علمياً كاشفاً المصالح السياسية والأيديولوجية التي تختفي وراءها. وفي الوقت نفسه أكد على روح التسامح وعلى أن الحقيقة البشرية هي حقيقة نسبية، وأنه لا يجوز لأي كان أن يتحدث باسم الله أو يدّعي التعبير عن حقيقته، فيخلع على فكره البشري قداسة ليس لها.

وفي كتابه «الضروري في السياسة» ندد ابن رشد بالتسلط والاستبداد والطغيان، ودعا إلى ضرورة مشاركة المجموع في تدبير شؤون المدينة أي المجتمع المدني. والأكثر من ذلك أنه وضع المرأة في مكانة لا تقل عن مكانة الرجل في المشاركة والقيادة، وأكد على أن الحاكم لم تنصبه الجماعة في منصبه إلا لحمايتها من المستغلين والأثرياء وإقامة العدل بين الناس. وإذا فشل في مهمته فإنه يلجأ للطغيان والتسلط واستعباد الشعب واستغلال الدين لتبرير تسلطه. ولهذا السبب بالذات اصطدم ابن رشد بالخليفة يعقوب المنصور عندما جاء يحدثه عن الحق، فما كان من الأخير إلا أن نفاه إلى قرية يهودية نائية وأمر بحرق كتبه وأعلن الحرب الشعواء على الفلاسفة. وقد وقف الغزالي نفسه إلى جانب الخلفاء مسانداً حكمهم ضد الفلاسفة وجعل من نفسه أداة بيدهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

«قاسيون» – 27 شباط 2022

عرض مقالات: