أشار ماركس إلى أن الفكر الفلسفي اليوناني هو بمثابة مرحلة طفولة الوعي البشري، في محاولته التأريخ لتطور الفكر البشري(الفكر اليوناني هو مثال ضمن أمثلة أخرى كالفكر الفلسفي الشرقي). ومن حينها، والفكر يسير في عملية تطور معقدّة يتداخل فيها تيّارا المادية والمثالية في عملية تمايز بين الاثنين ضمن الفكر الواحد. وفي حين شكّل هيغل ذروة المثالية ضمن عملية التأمل الذاتي، شكّل ماركس قطعاً في عملية الفكر عبر إرساء نظرية معرفة ومنهجية وقوانين التفكير الموضوعي كعملية تاريخية متطوّرة. أين وصل تطور الوعي اليوم، وماذا يقدّم من مؤشرات عن طبيعة التناقض التي تفرض بحدة عملية القطع التاريخي؟

من الطفولة إلى النضج

ليس مسار التطور محدداً بشكل قَبْليّ، وليس محكوماً بالجبريّة، ولكن تفرضه الظروف الموضوعية التي لا تتشكل اعتباطياً. بل ضمن شروط وعلاقات إعادة إنتاج الحياة المادية نفسها. ولهذا فإن التطور الاجتماعي والفكري يتخذ مسارات تاريخية ضرورية. وإذا كان الفكر الفلسفي المبكر هو، حسب تعبير ماركس، مرحلة طفولة الوعي البشري، فإن المراحل اللاحقة كانت تطوراً للفكر، في تيّاريه المادي والمثالي. فالفكر المثالي بالنهاية يحمل مضموناً مادياً، أي يعبر عن ظروف وعلاقات مادية. والتطور كان تعبيراً عن طبيعة التناقضات التي واجهها هذا الفكر، فكان كل تطور للتناقض المادي الاجتماعي يدفع الفكر إلى مستويات أعلى من التجريد والتعميم وسبر جوهر الظواهر. هذا ما يحصل على مستوى التطور الفردي كما يعبر عالم النفس السوفييتي، فيغوتسكي، ومن تبعه في تطوير المدرسة المادية التاريخية في علم النفس. فالتطور يسير على أساس مجابهة المشاكل المادية. ولأن الوعي التاريخي هو بالنهاية يُنتَج في أدمغة الأفراد الملموسين، يمكن القول اليوم بأن الوعي البشري بدأ يقترب من مرحلة أعلى من الموضوعية، حيث يصبح الفرد نفسه وقوانين تفكيره ضمن عملية النقد لصاحب هذا الفكر، وهذا بسبب أن التناقض المادي الذي يجابهه الفكر اليوم هو المصير التاريخي للبشرية في وجودها أو انقراضها، التساؤل عن المعنى الوجودي للحياة وكيف يجب أن تكون، وقضايا جذرية أخرى تصل حدّ طرح المسائل الفلسفية من موقع الصراع من أجل البقاء. نحن اليوم أمام مرحلة أصبح فيها الفكر نفسه موضوعاً لذاته بعد أن فرضت التناقضات المادية دخوله في عملية رفض شاملة له (ولحامله المعنوي- أي الذات - والمادي الذي هو وجود الفرد الملموس الجسدي نفسه) من قبل الواقع، وهذه هي اللحظة النوعية التي يصبح فيها الفكر واقعيا حسب فيغوتسكي. إنها عملية نحو الواقعية أشمل من أية مرحلة تاريخية مضت.

اتجاهات المادية والمثالية

هذا هو التناقض الموضوعي الذي يضغط باتجاه تعميق مادية الوعي البشري بشكل عام، وإلى عزل التيار المثالي، لا بل دفعه إلى التطرف نحو العدمية بكافة أشكالها كتعبير عن سلبيته الناتجة عن عجزه كتعبير عن منظومة علاقات بائدة بالمعنى التاريخي. في حين أن تطور الوعي المادي، أي تحوّله إلى “لحظة وعي علنية” يجري بشكل ضمني، وينفذ منه إلى السطح ملامح من هنا أو هناك، في أشكال سياسية أو أكاديمية أو أدبية... لذلك يمكن الاعتبار أن الوعي المادي اليوم في نسخته التاريخية الراهنة بشكله الكامن هو ضمن “نطاق التطور القريب”. إنه قادرعلى أن يتطور ولكنه يحتاج إلى مساعدة. هكذا وصف فيغوتسكي ضرورة المساعدة التي يتلقاها الفرد في عملية تطوره.

من الاقتصادي - السياسي – الاجتماعي إلى الأيديولوجي - العلمي

إن تطور الوعي اليوم مرتبط بالظروف المادية التي يجابهها، اقتصادياً وسياسياً وبيئياً.... إذن القضية مطروحة، وعملية نقد للقائم حاصلة. ولكن النقلة من الاقتصادي والسياسي والاجتماعي إلى مجال الوعي العلمي تحتاج إلى أدوات فيها يفكّر الفكر بالقضية المطروحة عليه. وإذا كانت الماركسية هي القاعدة العلمية التي عبرها يتملّك الفكر واقعه بالمعنى المادي التاريخي العلمي، فإنها لم تصبح بعد تياراً مهيمناً. وعودة إلى التاريخ القريب، نحو منتصف القرن الماضي، والعقود القليلة التي تلته، شهد الوعي عالمياً هيمنة وحضوراّ وازناً للفكر المادي التاريخي، بحثياً وسياسياً واجتماعياً وقيميّاً. وهذا نفسه حصل كون الخط المادي الصاعد حمل الأيديولوجيا الماركسية وعمم أدواتها على المرحلة في ترابط الصراع العالمي وقتها. وعبر تتبّع التيار الفكري اليوم في ذروة تطوره الواقعي والعلمي في التصدي لقضايا المرحلة، فإن ملامح مادية بارزة حاضرة في الدول التي تقف في واجهة عملية التصدي للتناقضات تلك، أي روسيا والصين تحديداً، والتي تملك قدرات التأثير العالمية على عملية تشكل تيار وعي شامل. ولكننا نرى اليوم ملامح منها في الممارسة السياسية، والتي لم تتحول بعد إلى تيار فكري مهيمن يحكم مسارات التفكير في مختلف الميادين العلمية واليومية. ولهذا بالتحديد، فإن الوعي اليوم بحاجة إلى تلك النقلة الواعية نحو تبني أدوات الفكر المادي التاريخي لحل القضايا المطروحة في شكلها الجذري على البشرية اليوم، حتى يجري الفكر نقلته المادية النوعية. ليعود من جديد ليفعل فعله في عملية التطور المادي نفسها. فالفكر اليوم له دور قيادي طليعي في عملية الانتقال التاريخي. ودونه لا يمكن للكامن أن يصير واقعاً. أي ليحصل التأثير العكسي المتبادل بين المستوى الفوقي والتحتي. فالمعطيات المتراكمة تفرض مساراً معرفياً ومنهجياً جديداً للوعي العلمي، ودونه لا يمكن للتطور أن يحصل، كما عبّر فيغوتسكي نفسه.

والتوتر الناتج عن الحاجة إلى أدوات تفكير مادية تاريخية يمكن تلمّسه عبر المؤشرات المستقاة من الميدان العلمي والأكاديمي والفردي والسياسي التي تعبّر عن هذه الأزمة المعرفية والمنهجية. فالتوسّع للتيار العدمي والتفكيكي والتقهقر إلى مراحل سابقة من التطور ضمن العقود الماضية أشار إليه العديد من النقاد والمفكرين، وتحديداً في المجال العلمي. والأفراد أنفسهم في عملية التوتر تلك يشهدون هم أيضاً تقهقراً إلى مراحل نضج سابقة وصولاً إلى سلوكيات طفولية حيث تتبسط فيها العلاقة مع الواقع حد التبعية المفرطة له. وكأن الوعي البشري يقف مكبّلاّ محكوماً بمنظومة فكرية بائدة مأزومة صار ضرورياً تجاوزها حتى يمكن للعلاقات المادية نفسها أن تقوم بنقلتها الموضوعية الواعية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“قاسيون” – 4 تشرين الأول 2021

عرض مقالات: