ربما امتلك الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي رؤية أكثر واقعية بشأن ما تقدمه التحليلات الماركسية من سبل تحقيق الانتصار السياسي، والقوى الاجتماعية التي تساهم في هذا الانتصار. وقد صدر، مؤخرا، عن دار نشر” شميلنغ” كتاب “فكر غرامشي السياسي” لأستاذ العلوم السياسية يوهانس بيلرمان تناول مدخلا في تفكير غرامشي. يقدم المؤلف لمحة عامة عن مسار السكرتير العام الأسبق للحزب الشيوعي الإيطالي، ونظرة ثاقبة في المفاهيم المركزية لتطويره الفلسفي للماركسية. وهذا يشمل أيضا مفهوم الهيمنة، والذي ربما يكون في الذاكرة السياسية، الأكثر ارتباطا بغرامشي. تقدم الهيمنة إطارا تحليليا متعدد الأوجه للمشكلة المطروحة باختزال كامل للنظام الاجتماعي في طبقة واحدة. وفقًا لغرامشي، يتعلق الأمر أكثر بسيادة الطبقة في المجتمع، أي موقعها المهيمن. وتمتع ذلك دائما بأهمية إستراتيجية: ما هي التحالفات التي يدخل فيها قادة الطبقة العاملة، الذين نصبوا أنفسهم، او كانوا قادة شرعيين؟ يسود الإدراك أن البروليتاريا وحدها لا تستطيع أن تدير ميزان القوى لصالحها. وهناك حاجة إلى حلفاء. في عصر غرامشي، كان الفلاحون يحتلون الموقع المتقدم في الخيارات.
كمثال تاريخي، يصف بيلرمان قصة نجاح اليعاقبة في فرنسا. على عكس البرجوازية، أخذ اليعاقبة بالاعتبار القطب الثالث، الحرفيين والفلاحين. وقد مكنهم ذلك من تنظيم الإجماع السياسي و”الحفاظ على الهيمنة”، على حد تعبير غرامشي. لذلك فإن مفهوم الهيمنة يقوم دائمًا على تحليل تاريخي لتوازن القوى المجتمعية.
لكن الأمر أكثر من هذا: فهم غرامشي للهيمنة يتحرك بين “القيادة” و”الحكم”. ووفق بيلرمان، فان ممارستهما هي مزيج من الإكراه والتوافق. لا ينبغي أن تتفوق الأولى على الثانية، ويجب تحقيق توافق الأغلبية. وفقًا لغرامشي، فإن هذا يسير جنبا إلى جنب عبر مراحل مختلفة من الدولة الحديثة. في البداية تنشأ الصراعات وتضارب المصالح بين الطبقات، وفي المرحلة الأخيرة تقوم مجموعة بصياغة برنامج شامل لإعادة هيكلة المجتمع. تعمل فكرة الهيمنة هذه على تغيير المجتمع.
يقول غرامشي إن إعادة الهيكلة هذه يجب أن تغير الاقتصاد. وهناك حاجة إلى إعادة تنظيم المجتمع، الذي ينظم في الرأسمالية وفقًا للمعايير الاقتصادية. وبالتالي، يجب أن تكون الهيمنة السياسية أيضا ذات طبيعة اقتصادية. ولهذا يرى غرامشي أن الفوردية (طريقة لتنظيم عمليات الإنتاج ظهرت عام 1908 على يد هنري فورد (1863-1947) مؤسس شركة فورد الأمريكية) لحظة هيكلية في أوائل القرن العشرين. مع التوازن، الذي يسعى اليه، يحافظ على الإنتاج ولا يحطم العامل، يرفع الرأسمالية إلى مستوى متقدم.
إن التأريخية التي يصر عليها غرامشي تعني أيضا أن التحليلات، على سبيل المثال، بشأن الفوردية، لا يمكن اسقاطها ميكانيكيا على الوضع الراهن. يجب البحث في الهيمنة السياسية مجددا اليوم. بالإضافة إلى ذلك، تشير لغة اليسار منذ فترة طويلة الى الليبرالية الجديدة، وفي الغالب يكون المقصود بها وصف التشكيل المجتمعي، وليس العمل على تحالفات طبقية محتملة.
في مواجهة المرونة الشاملة لعالم العمل، لا يؤثر الاقتصاد على العمال الكلاسيكيين فقط، بل على الموظفين المستخدمين، أصحاب الدخل المرتفع، والعاملين لحسابهم الخاص، الذين يخشون حالة القلق الناتجة عن طبيعة المجتمع، في بداية القرن العشرين تميزت بشكل أساسي، الكنزية (نسبة الى الاقتصادي الانجليزي جون مينارد كينز - 1883 – 1964) التي مثلت ذروة الفوردية. وتحدث البعض عن تفكك البروليتاريا.
يمكن أن تكون حركة المستأجرين (حركة ناشطة في المانيا ضد ارتفاع الإيجارات – المترجم) دليلاً على ذلك وفي الوقت نفسه تعطي الهيمنة السياسية بعدا جديدا. ليس العمال الكلاسيكيون فقط، يناضلون من اجل سكن مناسب التكلفة. ولم يعد بإمكان الطلبة تحمل اجرة غرفة في سكن مشترك، وتطرد سلسلة الشركات الكبيرة، الصغار من متاجرهم، وحتى هذا المالك أو ذاك لشقته، شوهد في احتجاجات المستأجرين، اما بدافع التضامن، او ان الحياة في المدينة الارستقراطية، أصبحت، بالنسبة لهم، اقل قيمة.
إذا اتبع حزب أو حركة غرامشي ونظريته في الهيمنة، فمن المهم أن يلعب الدور القيادي في هذه الحركة وأن ينظم الإجماع السياسي. وسيكون من الضروري تحديد الحركات الأكثر ملاءمة لإعادة التشكيل التقدمي للمجتمع. ومن أجل تحقيق ذلك من المفيد التعامل مع فكر غرامشي السياسي.