ضمن مسعى سابق لإعادة ترتيب أطروحات عن فيورباخ لتسهيل فهمها، أطرح أمامكم المجموعة الثانية التي تضم الأطروحات الأولى والخامسة والثالثة.

المجموعة الثانية: ماركس يقابل تفكير فيورباخ بالممارسة الثورية

الأطروحة الأولى: «إن النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها - بما فيها مادية فيورباخ - هو أن الشيء، الواقع، الحسية، يتم تصورها فقط في شكل موضوع، أو في شكل تأمل، لا بشكل نشاط إنساني حسي، ممارسة، غير ذاتي. ومن ثم، بخلاف المادية، فإن الجانب النشط [العملي] تم تطويره بشكل تجريدي فقط من خلال المثالية - التي، بالطبع، لا تعرف النشاط الحسي الحقيقي كما هو في الأصل. يريد فيورباخ أشياء [موضوعات] حسية، متميزة حقا عن موضوعات الفكر، لكنه لا يتصور النشاط الإنساني نفسه كنشاط موضوعي [واقعي، تجسيدي]. ومن ثم، في كتابه جوهر المسيحية، يعتبر الموقف النظري هو الموقف الإنساني الحقيقي الوحيد، بينما يتم تصور الممارسة وتثبيتها فقط في شكلها اليهودي [التجاري] القذر. ولهذا، لا يدرك أهمية “ثورية” النشاط “العملي النقدي”».

الأطروحة الخامسة: «ان فيورباخ الذي لا يرضيه التفكير المجرد يستنجد بالتأمل الحسي؛ لكنه لا يفهم الحسية باعتبارها نشاطا عمليا للحواس الإنسانية».

الأطروحة الثالثة: «إن العقيدة المادية حول تغيير الظروف والتنشئة تنسى أن الظروف إنما تتغير بفعل الناس، وأن المعلم نفسه يجب أن يتعلم. لذلك يجب أن تقسم هذه العقيدة المجتمع إلى قسمين، أحدهما أعلى من المجتمع.

إن تزامن تغير الظروف مع النشاط الإنساني أو التغيير الذاتي لا يمكن تصوره وفهمه بشكل عقلاني إلا باعتباره ممارسة ثورية».

ان ماركس، إذ انتقد فيورباخ في المجموعة الأولى لفشله في تحليل الظروف الاجتماعية الملموسة، فانه يناقش في المجموعة الثانية الآثار المترتبة على هذا النهج عندما يتعلق الأمر بكيفية تغيير العالم.

في المجموعة الأولى، يجادل ماركس ضد فصل فيورباخ الصارم بين العمليات الذهنية (الذاتية) والظروف الخارجية (الموضوعية). ان ما نقوم به، “النشاط الإنساني الحسي، الممارسة”، هو بالنسبة لفويرباخ، مجرد موضوع خارجي. بينما يستمر العمل الحقيقي في أدمغتنا.

يكتب فيورباخ في مؤلفه جوهر المسيحية «الحب هو الواقع الذاتي للأنواع، مثلما أن العقل هو واقعهم الموضوعي». إنه يحاول إيجاد طريقة للخروج من انقسام الموضوع/ الذات، لكنه يتراجع عن الحب مقابل الذكاء، أو العاطفة مقابل العقل، أو القلب مقابل الرأس. الجملة الأخيرة تبدو مألوفة؟

وهكذا، فإن فيورباخ عالق في مأزق. يريد أن يكون الناس محور فلسفته، لكنه يرى معظم ما نقوم به على أنه “خارجي”. لقد كان المثاليون وعظيمهم هيغل، مع روحه المطلقة التي تتحرك عبر الزمن، هم الذين فهموا النشاط، الفعل، ولكن فقط بالمعنى التجريدي والمثالي.

يقول ماركس أننا يجب أن ننظر إلى “النشاط الإنساني نفسه كنشاط موضوعي”. في حين يؤكد فيورباخ أننا يجب أن نفهم “النشاط النظري باعتباره النشاط الإنساني الحقيقي الوحيد”، لذلك فهو يستخف بالنشاط الاجتماعي - الاقتصادي، الذي يشير إليه ماركس في «شكله اليهودي [التجاري] القذر».

ان ماركس يربط هنا بين تقييم فيورباخ للإله اليهودي باعتباره أنانيا مفترضا - من الناحية اللاهوتية – وبين الارتباط النمطي للمجتمع اليهودي بالتجارة. وهكذا، فإن عدم قدرة فيورباخ على تصور النشاط الإنساني، الاقتصادي أو غير ذلك، نفسه - الذي يتطلب في الوقت نفسه نشاطا ذهنيا ويدويا - أعماه عما يسميه ماركس نشاطًا «ثوريا» أو «نقديا عمليا».

دعونا ننتبه هنا الى ان ماركس لا يستخدم تعبير «ثوري» بمعناه السياسي فقط، ولكن بمعنى أرحب يشير إلى تأثير الفعل الإنساني على الطبيعة وعلى «مجموع العلاقات الاجتماعية».

في الأطروحة الخامسة، يكرر ماركس هذه الحجة، من حيث الجوهر، في شكل مكثف بعد ان يكشف في الأطروحة الثالثة عن القلب النابض للنظرية الجديدة التي كان إنجلز متحمسا لها. إن ملاحظة ماركس الجديدة بأن «المعلم يجب أن يكون هو نفسه متعلما» هي المفتاح لمفهومه الجديد الكامل لنظرية المعرفة (دراسة من أين تأتي الأفكار) والتغيير الاجتماعي.

ونخلص الآن الى فهم انه بدلا من الآلهة، أو المثُل، أو الفلاسفة، أو الأبطال الذين يحركون التاريخ من خلال قوة إرادتهم، فأن التطور الاجتماعي، بل حتى المعرفة، يجب ان تنبع من عملية ديالكتيكية تدمج الحياة الفكرية والاجتماعية على حد سواء، وهي «تزامن تغير الظروف مع النشاط الإنساني أو التغيير الذاتي» أو ما يسميه هو «الممارسة الثورية».

ان ماركس يفهم «الممارسة الثورية» على إنها نظرية والتطبيق العملي لها كعملية متواصلة ومتلازمة. فهو لا يقول بأن النظرية تأتي أولا ويلحقها التطبيق العملي، أو ان التطبيق العملي يأتي أولا وتلحقه النظرية، بل يقول إنها تشكل ظاهرة متزامنة ومتداخلة ومختلطة يجب اعتبارها جانبين لكل واحد، في حركة مستمرة. لا يوجد معلم غير متعلم في نفس الوقت، ولا يوجد شخص متعلم وليس معلما في نفس الوقت.

عرض مقالات: