في عام 2002 كنتُ في زيارة الى دمشق وجمعتني جلسة حميمة مع أصدقاء لم ألتق بهم منذ سنوات المنفى الطويلة. في نادي الصحفيين كانت مائدة تضم كلا من حاتم الصكر والراحل كمال سبتي وعواد ناصر ومحمد مظلوم وانا، انتبه كمال سبتي الى الشاعر العراقي الكردي الكبير "شيركو بيكه س" الذي كان يجلس الى مائدة قريبة منا مع بعض الأدباء السوريين. شيركو ترك مائدته وجاء ليجلس معنا. كانت المرة الأولى التي أرى فيها هذا الشاعر الكبير والذي خلال فترة جلوسه معنا تعرفت على بساطته وطيبته وحديثه الشيق الممتع بالعربية التي ترافقها لكْنة كردية نحبها. انه يعيش حياة الشاعر الزاهد عن كل شيء.
في تلك الجلسة الحميمة كنت أشاهد ضحكته الحزينة، وكأنه يحمل على أكتافه هموم كل الفقراء، ابتسامته مثل مشاعل الحرية تخيف الظالمين، أنه رمز الشعر الكردي الكبير كما كان الشاعر عبد الله كوران ووالده الشاعر فائق بكه س.
كنا نقرأ قصائد شيركو وكأننا نقرأ لشاعر عربي كبير. نجح كشاعر كردي عاش حياته من أجل البسطاء والمظلومين وأصبح واحداً من أعلام الكرد الأدبية وكذلك هو عند العرب. انه شاعر كردي وعربي متمكن من أدواته في اللغتين العربية والكردية. وهو المترجم الذي نقل الى اللغة الكردية رواية "الشيخ والبحر" للروائي الامريكي ارنست همنغواي وأعمال عالمية أخرى، وكان انتقاؤه الترجمة ينم عن شاعريته العالية وتذوقه الرفيع للأدب العالمي. شاعر فريد بكل شيء ورمز من رموز ثقافة الشعب الكردي .
عندما جاءت إليه حقيبة وزارة الثقافة على طبق من ذهب، وأصبح وزيرها في الإقليم لم يستطع الألفة مع المنصب بوصفه سلطة وجاه ومال وهو الذي يعيش لينثر الشعر في دروب الفقراء والمحرومين. وذات يوم وفي لقاء تلفزيوني قال: لا يستقيم الشاعر مع منصب الوزير! ولهذا قدّم استقالته من وزارة الثقافة في إقليم كردستان في تسعينيات القرن الماضي ، كان لا يؤمن إلا بالشعر والفقراء، فلم يسترح للحياة السياسية ولا المناصب الكبيرة ولا الأموال والرواتب العالية التي تميزه عن الذين يكتب عنهم، لهذا أعتبر البقاء في المنصب الوزاري بمثابة التخلي عن كل الثوابت والقيم الانسانية النبيلة. وقد أكتشف كم هي حقيرة ومذلة وعفنة تلك المناصب السياسية التي تتحارب الكتل والاحزاب من أجل الظفر بها !
شاعر خلاق مثل شيركو بيكه س لا يمكن له أن يعيش إلا مع البساطة والنبل وحب الناس الذين أحبوه وأحبوا قصائده التي تحدثت كثيراً عن حياتهم ومآسيهم التي لا تنتهي. لقد عاش المنفى لسنوات طويلة، وفي عام 2013 غادرنا في منفاه السويدي وبناء على وصيته دفن مع الفراشات في حديقة بمدينته السليمانية . رحلة طويلة مريرة مع الحياة والشعر والنضال وحب البسطاء والمحرومين والدفاع عنهم، عاش للشعر والانسان فقط وكتب عن هموم الفقراء، أغلب قصائده كان يقوم بترجمتها الى اللغة العربية التي عشقها كما لغته الكردية وهو من أكثر الأدباء الكرد الذين ترجمت أعمالهم الى اللغة العربية وترجمت الى بعض اللغات الأجنبية ويعتبر الشاعر شيركو من رواد قصيدة النثر الكردية.
في قصيدة الشاعر الكبير شيركو بيكه س "عطاء" ارث كبير كان يطمح إليه من هذا العالم المترامي الأطراف وهو الشعر، ولكي يصبح أحد المكونات الباهرة في جمالها والصادقة في كل شيء، فان قصيدة عطاء تصلح لكل الأزمان وكل الأمكنة. أنها تحمل الشعر بين جناحي الفراشة وتحلق به عالياً فوق السماء.
يقول الشاعر شيركو في مقطع منها وهو ينادي الفراشات:
لا تحزني أيتها الفراشة
لعمركِ القصير
لأنكِ وفي الغمضة تلك
منحتِ طولاً لعمر الشعر
لم يعطه حتى نوح
فلا تحزني.. أيتها الفراشة!

عرض مقالات: