ما الذي يجعل ألف ليلة وليلة سردية كبرى في الادب العربي؟ ولماذا لم يمت ذكرها وذاكروها في الشرق والغرب؟ انها الغرابة ولا شك، بألف لام التعريف والعهد والاطلاق كما يقال. نعم، هناك شهريار وشهرزاد، وهما الحكاية الاطار في هذه الليالي، ولكن جوهر الغرابة يكمن في الحياة وفي الفن، في الحياة والموت، وكذلك في آلية التكرار، في انتفاء الالفة وغياب الشعور بالامن. كل ما هو ضد الالفة غريب، وكل ما هو ضد الفرح غريب، والاكثر غرابة من هذه الغرابة نفسها ان تتحول الاشياء التي كان ينبغي النظر اليها على انها غريبة الى اشياء عادية ومألوفة.
لقد اطال الارجنتيني خورخي بورخيس التأمل في عنوانها، قائلاً: "الف ليلة وليلة" يا لعظمة العنوان، وما عداه فهو نافل حقاً". وكان الفرنسي فولتير يأمل ويتمنى ان يفقد الذاكرة ليعيد لذة قراءة "الليالي" من جديد. في حين كان الالماني غوته يقارن نفسه ويضاهيها، بوصفه شاعرا وروائيا وكاتبا مسرحيا بالحاكية شهرزاد وليس ادل على ذلك من قوله بأن اسلوبه في كتابة اهم رواياته "سنوات التجوال" كانت تقوم على طريقة السلطانة شهرزاد. بينما نرى اعجاب الانكليزي كوليريدج بما اسماه بـ "الكون العضوي" المتجسد في الحكايات العربية، بمعنى الكون الذي تتداخل فيه المسببات بالنتائج والخارق بالدارج والطبيعي بما هو فوق الطبيعي، والمادي بالميتافيزيقي في توحد لا ينفصم.
لقد مثلت "ألف ليلة وليلة" نصا مركزياً في الثقافة العربية، نسجت على منواله العديد من انواع السرد وطرقه المتنوعة واساليبه المحدثة. وجاءت الحكاية في "الليالي" متعددة الأصوات، متنوعة في فضائها الزمكاني والاجتماعي، ويستمد هذا التعدد خلفياته من النسيج الذي تجمع عبر الامكنة والازمنة والثقافات التي اسهمت في تناص هذه الليالي وسردياتها، مع الامم المجاورة وتناقل الاخبار. فالنسق الشفاهي "القبلي" للحكايات، ساهم في تعددية الاصوات السردية في الحكاية ما بعد التدوين. فجاء "الحكي" كما يرى الناقد الفرنسي جيرار جينيت في "الليالي" سلسلة متداخلة بمعنى حكاية داخل حكاية، تنبثق من اطار خاص بالحكي ضمن بنية ثلاثية متكونة من "الراوي، المروي، المروي له" بتشكيل خارجي يمثل البنية السردية للخطاب.
والغرابة في "الليالي" حياتية وابداعية، وقد تتجاوز الغرابة الحياتية فعلا الغرابة الفنية والادبية لأن سردياتها تمثل نسقاً شفاهياً شعبياً ودونت بشكل متأخر، فأخذت طابعاً "تداولياً" يحوي آثاراً متعددة لثقافات ولهجات مدن شرقية عديدة كبغداد والقاهرة ودمشق والبصرة وحلب، حيث عمد رواتها الى الحذف والاضافة والتلوين والتمكين بما يناسب به المقال مقام الاداء. ومن الممكن تمييز ثلاثة اصناف من الشخصيات: "تاريخية" لتوهيم المتلقي بحقيقة الحكايات كهارون الرشيد، الحسن البصري، المأمون، المتوكل، جعفر البرمكي. و "متخيلة" بمجرد قصصيتها كقمر الزمان، انس الوجود، تاج الملوك، الورد في الاكمام، ضوء الزمان. و"خرافية" لتوهيمه بأسطوريتها كالعفاريت، الشياطين، الافراس الطائرة، الثعابين المتحولة، الشخصيات النحاسية.
وبعد ..
فللغرابة الادبية والفنية نوعان: غرابة الللامألوف وغرابة المألوف، كما نهضت بهما اطروحة الدكتور الفنان سعد عزيز عبد الصاحب في كتابة "الف ليلة وليلة وتجلياتها التراجيدية في المسرح" والتي يقول في مقدمتها: جاءت اهداف الكتاب من خلال تأصيل سرديات "الليالي" في تاريخنا العربي والاسلامي في عروض مسرحية عراقية وعربية مبتكرة، وايضا الكشف عن التجليات التراجيدية في هذه العروض.
الكتاب يتألف من اربعة فصول مكتنزة، يتقدم فيها مفهوم التراجيديا في الفلسفة الجمالية والدرامية، كمهاد نظري منذ عصور الاغريق في اليونان وحتى الكلاسيكية الجديدة في فرنسا، مروراً بتراجيديا الامكنة في مسرح شكسبير الاليزابيثي مع تسليط الاضواء الكاشفة على هذا المفهوم في الفلسفة المثالية والمدارس الرومانتيكية التي تجلببت على وفق معطيات كل عصر ومتغيراته البنيوية، متضمناً طروحات هيغل ونيتشه وشوبنهاور وغوته، حيث نجد التراجيدي قد نشأ في خضم العلاقات التاريخية الانسانية للمجتمعات المتغيرة، وهذا يعني انه لم يبن اساسه عبثاً في فضاء العدم والوهم، وانما شيد صرحه على ارض محيطه الاجتماعي الذي لولاه لما كان له وجود.
ويتعرض المؤلف في الفصل الثاني المعنون "سردية الحكاية التراجيدية في ألف ليلة وليلة" الى مفهوم الاستشراق من منطلق تاريخي يذلل العقبات في فهمنا العلاقة بين الشرق والغرب، باعتبار "الليالي" نصاً مركزياً في الثقافة العربية نسجت على منواله العديد من انواع السردية والدرامية ووقوع الغرب في دائرة السحر الشهرزادي قبل ان يحصل على مركزه المتروبولي المعروف من خلال حالات القص والتمسرح والفنون الاوبرالية، وعبر حكايات الليالي الجادة والمرحة والعجيبة ومفارقاتها الهزلية الممدودة والمطولة. ومحور هذه الحالات هو التحولات والتغايرات في وحدتي "الزمان والمكان" كجزء من بناء عقلي، فلسفي وديني محض، يشي بايمان كامل على ان العقلية العربية الرسمية كانت تخطط بشكل او بآخر الى توسيع الرقعة السياسية من خلال السيطرة على طرق التجارة والسفر، وان الزمكان في الفلسفة العربية وفي اللغة هو محور من محاور تنشيط العقل والمخيلة.
وفي الفصل الثالث وتحت عنوان "القراءة التراجيدية في الرؤى الاخراجية الاوربية والعربية" يستعرض المؤلف التقاء التيارات الدرامية والاخراجية المختلفة في توظيف "الليالي" بالانتقال من الحركة الدرامية والمشهدية في السرد الى الوقوف عند "شهرزاد السارد وشهريار السامع" اي الانتقال من التمفصل الواقع خارج الذات الى الاستيطان داخل الذات بمعزل عن الالف الرقمي للحكايا، بعد توقف دورانها ما بعد الالف، لابتداع عروض ونصوص درامية بآفاق مفتوحة واسعة، تمظهرت تجلياتها او قراءاتها الدرامية والاخراجية في المسارح الغربية والعربية ضمن امثلة متعددة ووافية، تشظت انواعها الى ميلودراما وباروديا واوبرا وكوميديا وفارص وكيروغرافيا.
واختتم المؤلف كتابه بفصل رابع حمل عنوان "تجليات الليالي في المسرح العراقي" وهو في التقدير العام يمثل الخلاصة المقطرة للفصول السابقة حول مفهوم التراجيدا في الليالي، حيث تأثرت التجربة المسرحية العراقية نصا واخراجاً في استلهامها المتن الليالي بشكلين معروفين، الاول جاء متأثراً بالتجربة العربية في ضوء الفرق المسرحية التي زارت العراق في عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم من خلال تجارب المخرجين جعفر السعدي على مسرحية "شهرزاد" لتوفيق الحكيم، وبهنام ميخائيل على مسرحية "سر شهرزاد" لـ علي احمد باكثير، وفوزي مهدي على مسرحية "على جناح التبريزي وتابعه قفه" لالفريد فرج. والثاني يمثل ارهاصا في المثاقفة مع المسرح الاوربي، كما في مسرحية "الموت والقضية" لعادل كاظم واخراج ابراهيم جلال اعتمادا على اسلوب العبث واللامعقول، ومسرحية "الؤال" لمحيي الدين زنكنة واخراج جعفر علي على منوال المسرح التسجيلي لبيتر فايس والمسرح الملحمي لبريتولد بريشت.
والملاحظ في هذا الفصل ان المؤلف قد كرس وعيه النظري وعدته النقدية لسبعة عشر عرضا مسرحياً محلياً، اقتبست واعدت من حكايات الف ليلة وليلة بأساليب درامية واخراجية مختلفة، عرضت على مسارح العاصمة بغداد، وتحددت بالمدة الزمنية "1980- 2000" بأقلام فلاح شاكر وسمير العبادي وكريم جمعة وعزيز عبد الصاحب وسليم الجزائري وقاسم محمد وعقيل مهدي وبإخراج وشواغل هاني هاني وسامي عبد الحميد وفاضل خليل وقاسم محمد وسليم الجزائري وعقيل مهدي وعزيز خيون ورياض شهيد ومهند طابور. وقد جاء هذا التكريس من خلال دراسة النص الموضوع في ضوء الحكاية الاصل، وما يترتب عليها من قراءة اخراجية بأنساقها الفنية والجمالية والدلالية.
أخيرا ..
ليس غريبا على المؤلف الدكتور سعد عزيز عبد الصاحب هذه الدراسة المعمقة الممتعة، فهو سليل المنصة المسرحية العراقية كاتبا وممثلا ومخرجا مع المشاركة في العديد من الاعمال التلفزيونية والسينمائية والاذاعية، وجنوح بارز في السيرة والتطلعات من خلال الثقة بالحاضر والامل في المستقبل.