يخضع الخطاب الروائي، في بعض التجارب الروائية، الى محددات ايدلوجية أو اجتماعية، اقترنت اكثرها بالمناهج السياقية، كالرواية الواقعية، والرواية الاجتماعية، او الرواية الواقعية النقدية وغيرها، تبعا للأسلوب الذي ينتهجه الروائي في تقديم روايته، حيث يميل الى خلق سياقات ثابته تصب فيها الثيمة الروائية، حتى يوصل او يصل الى مبتغاه من خلال الهيمنة على القارئ، وادارة تلقيه صوب الرؤية التي اختطتها الثيمة، ومن تلك الاساليب هي الجملة المغلقة، التي تجعل من الروائي ورؤيته هما المهيمنين على خطاب الرواية، اذ ان النوع الاخر من الجمل وهو الجملة المفتوحة؛ التي ينسبها امبرتو ايكو في كتابه "الاثر المفتوح" الى القارئ او المؤول، تمنح ذلك القارئ هيمنة على الخطاب الروائي، وقدرة على اعادة بناءه، لذلك تميل الروايات الواقعية الى الاثر المغلق او الجملة المغلقة، التي تحقق لها السيطرة على القارئ، وعلى وجهة تلقيه، والرؤية او الخلاصة التي تخرج بها تلك القراءة.

عند قراءة رواية "الياقوتة السوداء" للكاتب موسى غافل الشطري، تنفتح أمامنا عدة مسارات للتحليل، ممكن لنا ان نختطها في تتبع البناء الفني والثيمي للرواية، واول هذه المسارات هو المسار الذي يركز على خطاب الرواية من خلال نوعية الجملة التي يستخدمها الروائي، حيث تميل جمله الى الجملة المغلقة، المفسرة، وهذا برأيي بسبب الحمولات الايدلوجية التي يريد ان يفرغها الروائي بهذا الخطاب، والتي تؤثر على تركيبة الجملة نفسها، وليس فقط على دلالتها، او ثيمتها، لان الجملة المفتوحة او بالتحديد الجملة ذات الدلالة المفتوحة ربما تخرج عن ربقة او المسار المحدد الذي ترسمه الايدلوجيا، لذلك فقد بدت عناصر الرواية كالمكان والشخصيات.. الى اخره في روايتنا هذه، وكأنها مجرد اوعية لتلك المحمولات، ولم تستطع الافلات من ربقتها الا في مواضع قليلة، وخاصة في الصفحات الاخيرة، وبالتحديد في لحظة احتضار "سعدة" الشخصية الرئيسة، حيث البناء الشعري الذي صيغ فيه ذلك الحوار المفترض بينها وبين "شمران"، الذي حافظ على نسيجة رغم انفتاحه، دون ان ينقاد وراء اي رؤية قبلية او محمولات تثقل عليه، بل انساب بكل هدوء وشاعرية، تتناسب مع الموقف الذي جمع الروحين:"

- انا ما انحب على دنياي، بس من ألم راسي. هاي الشغلة دوختني سعده، حيل دوختني، سالفه مو معقولة، ما حاطها براسي"، حيث قل استخدام تلك الجمل المغلقة واستبدلت بجمل مقطوعة، وكلمات دالة تختصر ربما ما يمكن ان يعبر عنه بجمل طويلة.

ما اقصده بالجملة المغلقة هي الجملة التي تفسر نفسها ولا تحتاج الى التفكير في تأويلها او البحث عن ما تشير اليه، او المقيدة بدلالة واحد، وكما استخدمها الروائي مثلا في الصفحة الاولى من الرواية كـ "أغنية صافية الاديم" او "تغردها حنجرة، بنبرات واضحة" او "تداعبها رغبة جامحة" حيث نرى هنا تركيبة الجملة المغلقة او المفسرة، ان كانت بصفات تلحق بالاسم او بجملة او شبه جملة تفسر ما قبلها، حيث ان "الاديم" جاءت لتفسر "أغنية صافية"، و"بنبرات واضحة" لتفسر "تغردها خنجرة" وهكذا دواليك، وتقصدت ان استشهد بهذه النوعية من الجمل، حيث انها في ظاهرها تخلو من اي محمولات ايدلوجية او اجتماعية، بل انها جمل وصفية، حيث اريد ان اوضح ان هيمنة الثيمة الواقعية التي يراد منها ان تكون وعاء لتلك المحمولات المفترضة، يجعلها ايضا تهيمن على تركيبة الخطاب الروائي برمته، ومنها لغته، من خلال الجملة المغلقة دلاليا، حيث تمثل ربما اثافي سرد الواقعية الاجتماعية، قد يرى البعض ان هذا الاسلوب في بناء الخطاب اللغوي للرواية يمثل ضعفا في هذا البناء، ولكن هذا الرأي ربما يلغي الطبيعة البنائية لهذا الصنف من الروايات، التي تركز على المحمولات الاجتماعية والسياسية بما يعرف بروايات "الواقعية الاجتماعية النقدية"، حيث يمكنني ان اجترح نوعين من الجمل داخل هذه الرواية:

* اولا: الجملة المرتبطة بالمكان، وهي هنا تؤثث هذا المكان او تلونه، المدينة كما في ص5 وما يليها، او الريف ابتداء من ص44 الى نهاية الرواية، مع ان هذين المكانين يحملان بين تضاعيفهما امكنة اخرى اصغر، اماكن مفتوحة واماكن مغلقة، ولأوضح ما اقصده؛ لأخذ هذا الاقتباس واحلله وفق وجهة النظر هذه "في مثل هذا الصباح الجميل تلوح الشمس بكامل اشراقها الدافئ. وعند اعتلاء أسطح البيوت العالية، او الطابق الاعلى من مدارس المدينة، فتمتد امام المتأمل، مروج مترامية من البطائح الخضراء، من مزارع القمح والشعير والمراتع، وماشية ترعى في سفوح المزارع بهدوء."، حيث نلاحظ من هذا الاقتباس ان الراوي يحاول ان يخلق لدينا صورة ذهنية مرئية لهذا المكان الذي يصفه وهو المدينة، اذ نلاحظ على جمل هذا الاقتباس انها جمل مغلقة تامة المعنى والوضوح، حيث تفسر بعضها بعضا، فـ "الصباح جميل"، و"الشمس بكامل اشراقها الدافئ" الى آخره وطبعا هذا نموذج بسيط لتوضيح ما اقصده عن ما يمكن ان تجده في الرواية، فيما يخص المكانين، حيث يصبح المكان واجهة سيسيوثقافية تتواشج فيها باقي العناصر ضمن محمولات الثيمة، ايدلوجيا واجتماعيا، وخاصة بيت حواس وفدعة المتواضع، على عكس بيوت المدينة الاخرى التي يغيب عنها التفصيل وانما هي اشارات ضمنية، كـ "بيوت أهل الخير"، او الاشارة الى خدمة "فدعة" او "سعدة" في تلك البيوت، والتي تبني لنا تصورا ضمنيا عن تلك الامكنة وانها عائدة لطبقة اخرى.

* ثانيا: الجمل المرتبطة بالشخصيات، وهي جمل وصفية، تصف الشخصيات او افعالها، وكما صورت لنا حواس الاعمى، وفدعة، وسعدة، وبدر، وبدرية، والشيخ حرب، وشمران، وكهرباية وغيرهم، وهذه الجمل وعند استخدامها في وصف الشخصيات تصبح بنية ضمنية تختزل باسم الشخصية فقط، فعندما يذكر حواس مثلا، يستدعى الى الذهن تلك الجمل الوصفية التي وصفته "بالأسود والضرير.. الخ"، ولا تظهر هذه الجمل بصورة مباشرة دائما مع هذه الشخصيات، الا عندما تزج هذه الشخصيات في موقف ما، او ان تكون في سياق اجتماعي او ايدلوجي "أن فدعة ما كانت في يوم ما تمد يدها كمتسولة. بل حالها حال المحتشمات، رغم سوادها، رغم فقرها المدقع".

وربما من خلال ما اوردناه سابقا في تصنيفنا الجمل المغلقة في خطاب الرواية، تلك المقترنة بالمكان او بالشخصيات، تظهر لنا ما قلناه سابقا بان عناصر الرواية او ما يرتبط بالمكان والشخصيات على اقل تقدير، هي مجرد اوعية تصب بها تلك المحمولات الايدلوجية او الاجتماعية، حيث لا يظهر هذا النوع من الجمل، الا في سياق اجتماعي أو ايديولوجي.

عرض مقالات: