ما نفتقر إليه في دراساتنا الاجتماعية والثقافية، هو تحديد المفاهيم التي نتعامل بها لفهم واقعنا، ولا بأس من أن نشير إلى أن حقول المعرفة من ثقافة واقتصاد وفلسفة وعمران وانشاء المدن وغيرها، لها مفرداتها المنهجية الخاصة، وفي الوقت نفسه تشكل مفردات هذه الحقول المختلفة حزمة من المفاهيم المتداخلة فيما بينها، بحيث عندما تتحدث عن الثقافة بمفاهيم الثقافة، تجد هذه المفاهيم تشمل الاقتصاد والفلسفة والعمران والتربية والتعليم والعمل وتكوين الطبقات والفئات، وعندما تتحدث عن الاقتصاد بمفاهيم اقتصادية تجد فيها ثقافة السلعة وثقافة السوق وثقافة العلاقات الانتاجية وثقافة الاقتصاد الاجتماعي، وهكذا نجد تداخلا بين العلوم والفلسفة والثقافة والطب والانثروبولوجيا واللغة، بمعنى أن عصر الأنوار وهو يدمج بين حقول معرفية كثيرة تبدو للعيان انها متباعدة، بينما هي في حقيقة تشكيلاتها جزء من بنية اجتماعية واسعة.

ولكن ثمة نقطة جوهرية يجب الالتفات إليها عندما نتحدث عن التداخل المفاهيمي بين الحقول المعرفية، لا يمكن استخدام المصطلحات العلمية في حقول غير علمية إلا إذا وصلت تلك الحقول غير العلمية إلى منطقة التداخل بين العلم وموضوعها، ففي  الطب مثلا تتداخل مفاهيم الانثروبولوجيا لتتبع مظاهر الأمراض واشكالها في المجتمعات البدائية، وفي الصناعة تجد مفاهيم السوق والعولمة وما بعد الحداثة موجودة ضمن توجه الصناعات الحديثة وعلاقتها بالمناخ والبيئة وعادات وثقافة الشعوب وكيفية تسويقها وقدرتها على الاستجابة لمتطلباتهم دون الوقوع في المحرم والمقدس وغيرها من التابوات القامعة للفكر وللممارسة.

عندما تحتفي سماء العالم، بما موجود في غرائب الأرض المحلية  ترتبط رقصة زوربا بأرضية جزيرة كريت المحلية بانطلاقة الموسيقى المحلية في فضاء العالم، هذا التركيب الشعري الكوني يجعل كل المفردات الخاصة عامة عندما تحمل شحنات إنسانية مطلقة.

تدلنا رواية موبي ديك على علوم البحر والانواء وخرائط مسارات الحوت وارتباطها بإهاب المثيولوجي الديني، عندئذ نعرف تماما أن الرواية مشبعة بمحليتها، ولكنها بمنطلق ثقافي كوني ينقل الخصوصية المحلية إلى مطلقات كونية، وعندما يملأ ماركيز ذاكرتنا القروية بأفعال السحرة والحب نجد احلامنا تحلق "ريميديوس" بثياب بيضاء فوق بيوت القرية مصحوبة بضربات السحرة وألعابهم الفنتازية وهم يرون العقيد وقد اعتلى سيادة القرية والذاكرة.

لاحظ القارئ المعاصر للأدب أن ثمة مسارًا عالميا متناقضا تسير فيه شعوب الأرض جميعها، وهذا المسار تحول من مفهوم محلي محدد بشعب معين إلى مفهوم عالمي اطلق عليه "العولمة"، بحيث يمكنك أن ترى وقائع الحياة اليومية متصورة عبر العولمة في انتاجات فنية لم تلتق ثقافتها مع ثقافات شعوب نائية أو بعيدة، لقد حطمت الانثروبولوجيا الحدود بين الثقافات عندما اكتشف تشتراوس، الثيمة الإنسانية المشتركة بين الثقافات  في انتاجها الثقافي العام، وما بقي من الاختلافات في هذه الإنتاجات هو في الكيفية التي استخدم بها الإنسان تلك المواد الخام الاولية لإنتاج رسومه، او حكاياته، او أزيائه، او طريقة طهي اطعمته او طرائق الصيد، أو الشي، أو التعامل مع البيئة ومكوناتها. فالثقافة لا تستورد مفاهيمها، إنما هي جزء من مكونات الإنسان ومادة تدخل في السياق الاجتماعي الذي يجعل من مجموعة من الافراد جماعات منظمة.

إن السلوك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، هو سلوك تجمعه مفردات ثقافية مشتركة، ولذلك تجد الكثير من العادات والتقاليد متشابهة بين الشعوب.

عرض مقالات: