"ضفاف أَمستِل.. مُشاهَدات من المسرح الهولندي" كتاب صدر مؤخرا للكاتب والفنان المسرحي صالح حسن فارس المُقيم في أمستردام منذ عشرين عامًا. وبما أنّ هاجسه الأساسي منصبٌّ على التمثيل والإخراج المسرحييّن فلابدّ أن يُكرِّس بعضًا من وقته لمشاهدة الأعمال المسرحية الهولندية على وجه التحديد، والأوروﭘية بشكل عام، ويكتب عنها بعين الخبير الفاحصة، فقد عرفناه كاتبًا صحفيًا، وناقدًا مسرحيًا يُقيّم الأعمال المسرحية التي يُشاهدها، ويُشخِّص فيها مكامن الضعف والقوّة، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا هو خير مثال لما نذهب إليه.
لا يدّعي المؤلف بأنه يُقدِّم دراسة مُتخصصة في المسرح الهولندي العريق الذي يمتدّ تاريخه إلى عام 1638، وهو العام الذي عُرِضت فيه مسرحية "خايسبريخت فان أمستِل" للشاعر والكاتب المسرحي الهولندي يوست فوندل، وإنما يقدِّم لنا قراءة فنية وجمالية لـ 37 مسرحية شاهدها على مدى عقد ونصف العقد تقريبًا، وهي قليلة جدًا بالنسبة إلى فنان متخصص بالفن المسرحي، ويبدو أن ثمن التذكرة الباهض قد وقف حائلاً دون ذلك ولم يُتَح له سوى مشاهدة العدد المذكور أعلاه.
يضم الكتاب مقدمة بقلم الشاعر شعلان شريف، وتمهيد دبّجه الناقد بنفسه، إضافة إلى خمسة أقسام رئيسة وزّعها المؤلف على الشكل التالي:"المسرح الهولندي: عُروض ومُخرجون، عُروض عالمية في أمستردام، الجسد على المسرح، عُروض مسرح الطفل، والمسرح في مجتمع متعدد الثقافات"، وقد خلا الكتاب من الخاتمة التي تشتمل على النتائج التي توصّل إليها الباحث في جولاته النقدية المتأنية.
يضم القسم الأول من الكتاب "المسرح الهولندي" عشرة عروض مسرحية لأربعة مُخرجين هولنديين وهم يوهان سيمونس، أليكس فان فارمردام، خير تايس، ماتياس رومكا، إضافة للمخرج البلجيكي إيفو فان هوفه، والألماني أندرياس كريغنبورغ. حظي المخرجان يوهان سيمونس وإيفو فان هوفه باهتمام الناقد صالح حسن الذي تابع ثلاث مسرحيات لكل واحد منهما على انفراد. ولو تأملنا "المقالات" الستة لوجدنا فيها آراءً فنية مهمة في كل ما يتعلق بالنص المسرحي، والأداء، وسينوغرافيا العرض، والمؤثرات الصوتية والبصرية، والرؤية الإخراجية وما إلى ذلك. ففي مسرحية "الألوان الثلاثة" يتحدث صالح عن البداية الصادمة للعرض، وإقحام المُخرج متلقيه في زخم الأحداث، ثم سرده الحكايات اللونية الثلاث المستوحاة من ألوان العلم الفرنسي، ثم ينتقد الفصلين الثاني والثالث لأنهما لم يكونا برشاقة الفصل الأول وقوّة إدهاشِه.
ربما يتجلى التركيز في مسرحية "أيوب" على التلاقح مع القصة التوراتية المعروفة لما تنطوي عيله من ثيمة كونية مهمة تتمحور على الصبر، والمعاناة، وتحمّل المصائب لكن بصيص الأمل كبير في هذا العرض المسرحي حيث يُشفى الابن المُصاب بالصرع، ويُصبح موسيقيًا مشهورًا كما تنبأ الكاهن. ورغم توفّر كل عناصر الشدّ والتشويق والإثارة في هذا العمل المسرحي إلاّ أن الاستغراق في السرد الطويل كان مثلبته الواضحة، وربما تكون الترجمة من اللغة الألمانية إلى الهولندية قد ساهمت في تشتيت انتباه المتلقي بين قراءة الترجمة على الشاشة ومتابعة الأحداث على خشبة المسرح.
لم تسلم مسرحية "اللاجئ" رغم براعة الأداء من انتقادات صالح حسن للديكور الذي ظلّ جامدًا ولم يتغيّر طوال العرض، كما أنّ بعض المَشاهِد كان فائضًا عن الحاجة، وساهم في ترهّل النص المسرحي الذي يسخر من الأفكار النمطية السائدة لدى الكثيرين عن شخصية اللاجيء أو المُهاجر المقتلع قسرًا من جذوره.
يحظى المخرج البلجيكي إيفو فان هوفه بمراجعة لثلاث مسرحيات أيضًا وهي "التراجيديات الرومانية" التي تتحدث عن صعود الزعيم السياسي وأفول نجمه في مسرحيات "كريولانس، يوليوس قيصر وأنطونيو وكليو باترا". وقد ركزّ الناقد على استعمال تقنية الـ "ملتي ميديا" أو الوسائط المتعددة التي أبهرت المتلقين، ووضعتهم في دائرة الدهشة طوال مدة العرض. كما لفت الناقد انتباه القرّاء إلى أنّ مُصمم الديكور لم يَنْقَدْ لرغبات المخرج، وإنما جسّد رؤيته الشخصية كمصمم مبدع يدرك ما يحتاجه هذا العرض المسرحي بالذات. لا يخفى على القارئ الحصيف النفس التراجيدي الذي يهيمن على مسرحية "الحِداد يليق بإلكترا" للكاتب المسرحي يوجين أونيل، وهي مسرحية مأساوية بامتياز حيث تقتل كريستين زوجها العائد من الحرب، ثم يقتل الابن عشيق أمه، ثم ينتحر في خاتمة المطاف، وتبقى الابنة لافينيا محاصرة بالفقد والخسارات المتتالية. لعل الملحوظة المهمة هي استعمال المخرج هوفه للتفسير النفسي للأحداث، وهو يرى بأنّ "المسرح هو محطة التنقية للمجتمع". أما مسرحيته الثالثة "الصوت البشري" فقد ركزّ الناقد على صعوبة المونودراما التي يؤديها ممثل واحد عليه أن يشدّ انتباه الجمهور على مدار العرض وهي مهمة صعبة بكل المقاييس غير أن الممثلة المبدعة هالينا راين نجحت في هذا العرض، وتألقت فيه، وسحبت أحداثه صوب النهاية المفتوحة القابلة لتأويلات عديدة.
يمكن اختصار مسرحية "الأم الفظيعة" للمخرج أليكس فان فارمردام بأنه "نص درامي يدور حول أم داعرة، وأب سفّاح، وابنة مقموعة جميعًا يعيشون تحت سقف واحد كأنه سجن، يعاقب فيه أحدهم الآخر". تُعرّي هذه المسرحية المجتمع الهولندي من الداخل وتنتقده بطريقة لاذعة. أشاد الناقد بدور الممثلين وببراعتهم الأدائية، كما أثنى على التشكيلات البصرية التي لم تتكئ على التقنيات الحديثة التي غزت المسارح الأوروبية والأميركية.
يتوالى تتبّع الكاتب للمسرحيات الهولندية والأوروبية ويفيدنا بالكثير من المعلومات المهمة المقصودة لذاتها أو التي تأتي عفو الخاطر، وهذه واحدة من جماليات الكتاب، فـ "غرفة ديموقليس" للمخرج خِير تايس هي في الأصل رواية للكاتب ﭬيليم فردريك هيرمانس الذي يشكِّل الركن الثالث في الرواية الهولندية إلى جانب الروائيَين هاري موليتش وخيرارد ريفه. تنطوي المسرحية على رسالة احتجاج قوية ضد الحرب "التي لم تنتهِ بعد" كما يؤكد الحوار في نهاية النص المسرحي. فيما يقدّم ماتياس رومكا مسرحية "ريتشارد الثالث" بطريقة تجريبية جريئة، تكسر الأنماط السائدة، وتخترق التابوهات المُتعارف عليها. أما العرض العاشر والأخير في هذا القسم فهو "ريتشارد الثالث" أيضًا للمخرج الألماني أندرياس كريغنبورغ الذي يراهن على سلاسة السرد، وأداء الممثلين، مبتعدًا فيها قدر الإمكان عن الوسائط التقنية الحديثة، مع الاعتماد على عصرنة الأحداث، وإخضاعها للواقع الراهن.
يتضمّن القسم الثاني قراءة مُتمعِّنة في سبعة عروض مسرحية أولها "مدام دي ساد" للمخرج الـﭘولوني ﭬارليكوﭬسكي التي يمكن إيجاز قصتها بإيداع الماركيز دي ساد إلى السجن بسبب ممارساته الجنسية الشاذة مع ست نساء. القصة ذائعة الصيت ومعروفة لدرجة اشتقاق مصطلح السادية من هذا الاسم المعروف. ينوّه الناقد صالح حسن بأن المخرج قد اعتمد كثيرًا على السرد والحوار لكنه لم يسبب الملل للجمهور الذي شاهد العرض واستمتع بأداء الممثلين والرؤية الإخراجية المغايرة لما هو سائد ومألوف.
لا يخالطنا الشك في رغبة الفنان صالح حسن مشاهدة أي عمل مسرحي لـﭘيتر بروك فكلاهما أصحاب مهنة إبداعية واحدة، ولعل مسرحية "تيرنو بوكار" هي سانحة حظ له كناقد وكمُشاهِد، ولكل عشّاق المسرح لأنهم يقفون أمام مخرج كبير لا يلتزم بقدسية النصوص مهما كانت عظيمة ومُكتفية بذاتها، وربما تكون حكاية المتصوف الأفريقي هي النموذج الأمثل الذي أخضعه لقناعته الفكرية، ورؤيته الفنية التي ترصد إشكالية العنف والتسامح الديني التي تشغل العالم برمته. يعتمد بروك على الأسلوب الاختزالي، والمونولوغ الذي يروي لنا حكاية هذا الشيخ الصوفي الذي يقول في خاتمة المطاف:"هناك حقيقتك، وهناك حقيقتي، وهناك الحقيقة نفسها".
يصطحبنا المؤلف إلى "الكابوكي" التي تعني، بحسب المؤلف، التمثيل الغنائي الراقص، ويعتمد في عروضه على الموسيقى، والرقص، وتقنيات الميم. وقد تألق في هذا العرض الفنان الياباني المشهور إبيزو السادس ونال استحسان النقاد والمتلقين.
يعتمد المخرج الألماني يورغن غوش في مسرحية "مكبث" على أسلوب القسوة المثيرة للمُشاهِد كما يعوّل على الديكور البسيط الذي يذكِّرنا بالمسرح الفقير الذي يراهن على طاقة الممثل، ولا يتعكّز على معطيات التكنولوجيا الحديثة.
يُحيلنا المخرج الألماني نيكولاس شتيمان في مسرحية "بابل" إلى أحداث "أبو غريب" ومعركة "الفلوجة" في العراق وما تنطوي عليها من فظائع يندى لها جبين الإنسانية خجلاً. ومع ذلك فقد أخذ النص المسرحى منحىً تراجيكوميديًا كي يخفف من وقع الأحداث المأساوية المُفجعة. ولعل ملحوظة الناقد صالح حسن مهمة بمكان حينما قال بأن العرض ينمو من البُعد الواحد إلى البُعد الثالث.
لا تخرج مسرحية "أوبو" لسباستيان نوبلينغ عن هذا الإطار المأساوي، فأوبو هو رجل عسكري قريب من ملك ﭘولندا تحرّضه زوجته على قتله والاستحواذ على العرش لكنه يُصبح دكتاتورًا فظيعًا فلم يسلم من القصاص الذي ينتظر المُستبدين.
تقترب مسرحية "دون جيوفاني" من تراجيديات أخرى كثيرة ناقشها المؤلف في هذا الكتاب حيث تنتهي مصائر الأبطال بالموت. وفي هذه المسرحية يموت البطل في نهاية العرض لكن المُشاهدين يحملون في ذاكرتهم صورة هذا الرجل الغني، اللعوب الذي يطارد النساء ويغويهن الواحدة تلك الأخرى في عملية غرائزية متوحشة يحرّكها الجنس بعيدًا عن حالات الحُب المُتعارف عليها. ما يميز هذا العرض، بحسب الناقد، أنه متماسك، ورصين، وخال من الترهل.
لا يمكن الوقوف عند المسرحيات العشرين التي وردت في الأقسام الثلاثة المتبقية من الكتاب وهي "الجسد على المسرح" و "مسرح الطفل" و "المسرح في مجتمع متعدد الثقافات". يتألف القسم الثالث من توطئة مهمة تحمل عنوان "تأملات في الجسد" لم يستمدها الناقد فقط من قراءاته النظرية وإنما من مشاهداته لأحد عشر عملاً مسرحيًا من بينها "تاريخ الدموع"، "سوترا"، "كارمن" ، "ليلى والمجنون" وغيرها من المسرحيات التي تحتفي بالجسد، وتترك له الحرية فيما يقول بلغته الخاصة التي يفهمها الجميع تقريبًا، فالكلمات، على حد تعبير مايرهولد "لا تستطيع أن تقول كل شيء في حين أن حركات الأيدي وأوضاع الجسم والصمت والنظر هي التي تشير إلى حقيقة العلاقات المتبادلة بين الناس". أما القسم الرابع فقد تضمن ثلاث مسرحيات الأولى بعنوان "فتاة البحر" التي تتمحور حول المهاجرين، ومسرحية "الرسول" للمخرج الهولندي آيكة ديرك زفايخر التي قُدمت بطريقة محايدة، تخلو والإساءة، أو التحيّز إلى أفكار نمطية مسبّقة. و "حلم متجول" لجيرارد بلن الذي شحنَ ذاكرة الأطفال، وحفزّ خيالهم المجنّح أصلاً.
يختم الناقد صالح حسن كتابة بالقسم الخامس والأخير الذي يتمحور حول "المسرح في مجتمع متعدد الثقافات"، وربما تكون مسرحية "سيفاس" لشعبان أُول هي الأكثر تأثيرًا على المُتلقي الذي شاهد احتراق الفندق نتيجة عمل إرهابي أفضى إلى مصرع أربعين شخصًا بينهم 33 فناناً وأديبًا تركيًا، وجرح أكثر من ستين إنسانًا بسبب التجاذبات السياسية والدينية والطائفية. ثمة مسرحيات تركز على جرائم الشرف، وأخرى تتناول موضوعة الهجرة، فيما تبحث أعمال مسرحية أخرى عن أوجة التشابه والاختلاف بين الشعوب التي تتعايش على وجه المعمورة. وفي الختام لا بد من القول بأنّ هذا الكتاب لا يخلو من لمسات ذاتية لفنان مسرحي ينظر إلى العالم بعين كوزموبوليتانية تحتفي بالثقافة، والتسامح، وتكتفي بلغة الجسد كوسيلة للتفاهم بين الكائنات البشرية التي لا تُحسن أكثر من لغة.

عرض مقالات: