تستخدم علامات الترقيم بالإضافة الى دورها الوظيفي داخل اللغة المكتوبة؛ بصورة دلالية، حيث تلعب نقاط الحذف مثلا، والتي تتجاوز ربما في بعض الاحيان الثلاث نقاط، دورا دلاليا، إذ لكونها تعبر عن كلام محذوف، حاول الكتاب ان يجعلوا من هذه الفراغات نوافذ تفتح فضاء النص وتحاول اشراك القارئ في عملية ردمها، وان كانت في اغلبها مبنية ومصاغة بطريقة تقود ذلك القارئ صوب جهة معينة، وفي بعض الاحيان تفرض على ذلك القارئ مفردة بعينها، اذ تبنى وظيفة الحذف ربما لغرض الاختصار، على اعتبار ان معنى ما محذوف معروف ضمنا، او انه اختصار لتكرار نفس المعنى او المفردات، او هي مجرد لعبة تزينية فقط، خالية من اي دلالة، او ربما هي محاولة لخلق ايقاع تبادلي مباشر مع ذلك القارئ، لذلك فعتبة الاهداء في المجموعة القصصية "عودة اللقلق" للقاص حميد الزاملي "الى حقيقتي الوحيدة حتى الان............ ، إلى من علمني كيف اعشق بإرادتي حتى الان.......... ، إلى أبي الذي يرافقني حتى الان"، خلقت لدينا عدة تساؤلات، حيث ان هذه الفراغات المتفاوتة بالطول توحي ربما الى انها تشير الى اسماء او صفات لأشخاص قد احجم الكاتب عن ذكرهم، او هكذا نفترض، حيث الفراغ الاول يشير الى "الحقيقة الوحيدة" غير المصرح بها، والذي سيقودنا ربما الى ان نتماهى مع النقاط بالبحث او افتراض تلك الحقيقة، التي تحتمل عدة اوجه، لإدراكنا بان عتبة الاهداء ترتبط ارتباطا مباشرا بالكاتب وتدور حوله، الا انها بصورة او بأخرى تعتبر جزءا من المدونة النصية، لذلك فهي تدخل بعلاقات بنائية مع باقي عتبات النص، المجموعة، حيث يأتي الفراغ الثاني الذي يشير الى "من علمني كيف اعشق" ويدخل ايضا ضمن الفرضية السابقة، الا ان ما يغلق بوجهنا هذا الافتراض؛ هو الفراغ الثالث حيث انه موجه الى "الاب" اذن فهذا الحضور يكسر بنية الافتراض السابق للغياب، والذي يعيد تشكيل تساؤلنا من جديد، الى ماذا تشير هذه النقاط، والذي ربما سيغير ويقود افتراضاتنا صوب جهة أخرى غير تلك التي افترضناها سابقا، حيث تأخذ هذه النقاط دورا تزيينيا فقط، ولكن الازمة "حتى الان" التي تسبق النقاط تقودنا الى ان المعلومة الاحتمالية المفترضة لا تقترن بالشخص او الشخصيات التي يوجه اليها الاهداء، والذين قد اشرنا اليهم سابقا، بل انه يرتبط بالمدى الزمني الذي توحيه عبارة "حتى الان"، لذلك ترتبط هذه النقاط بالمدى الذي تمثله جمل الاهداء، بالاقتران مع طول وعدد تلك النقاط، والتي تتوزع بين "حقيقتي الوحيدة" 12 نقطة، و"علمني كيف اعشق" 10 نقاط، و"أبي" 29 نقطة، ويمكن لنا متابعة مدلولات هذه الدوال داخل النص واحتساب القيمة الدلالية لها، ليس فقط باعتبارها دالة لسانية وانما بقيمتها الدلالية التي تأخذ عدة اشكال استعارية ومجازية.
تأخذ هذه الدوال التي اشرناها سابقا، في النص الاول من المجموعة وهو "الرقص على مفترق الاصابع"، ثلاثة ادوار فهي "حقيقتي الوحيدة = المرأة"، "علمني كيف اعشق= الرقص"، و"الأب = الأب"، بالإضافة الى البعد الزمني الذي حققته في الاهداء لازمة "حتى الان"، وفي النص زمني الماضي والحاضر.
تقوم ثيمة هذا النص على تناوب الحضور والغياب لفعلي التذكر والنسيان، حيث يمثل الاول الراوي ويمثل الآخر المرأة، لذلك فارتباطهما معا هو حاجة كل منهما للآخر "كانت الاصابع فيما مضى تخيفني وتبعث في قلبي قلقا مازال يرافقني حتى الان، كيف يمكنني نسيانها، لقد بصمت فيها على اوراق التحقيق البيضاء بعد سنوات من الاعتقال"، بينما "هي" المرأة تمثل النسيان "ضغطت على اصابعها متناسيا ما جرى في الماضي البعيد والقريب"، اما الرقص - وهو الثيمة الرئيسة - فقد لعب عدة ادوار، كان احدها، واهمها بتصوري، هو دور الرابط والمولد لدوال النص، رابطا بين الراوي، التذكر والمرأة، النسيان "انني اطير كالفراشات يا أبي وحدها الوصايا تتأرجح ين رقصة واخرى على الرغم من قناعتي المتأخرة "بان الرقص من مستلزمات النقاهة والنسيان كما اراد الطبيب"، لكن القراءة غير المتعمقة والسطحية قد تجنح بنا للربط بين الرقص والنزعة الحسية لدى الراوي، والتي ستؤثر على مسار الدلالة التي نحاول استكشافها، "مدركا لأول مرة معاني الرقص واسرار الاصابع وسكون الهزيع الاخير من الليل، اقتربت منها، يممت انفي بشعرها المتطاير مبعدا عن مخيلتي كل الوصايا والدموع العذرية التي كانت تجتاح عمري بقوة"، لذلك فالقراءة المتأنية ستعيد تنظيم العلاقة بين الرقص -الوسيلة الى الحياة او العشق- والدلالات التي يقودنا اليها النص، ومنها الدلالتان السابقتان اللتان اجترحناهما لثيمة النص، وهما التذكر والنسيان، وارتباطاتهما بالوطن والغربة، والشجون الانسانية، اذ يصبح الرقص مولدا لتداعيات النص المرتبط بتلك الدلالات ومرموزاتها "الرقص يختصر الكثير، قالت ذلك ثم اردفت: انني اعود من خلال الرقص الى ذكريات ابي المنسية"، حيث يصبح الرقص هو الوسيط بين طرفي ثيمة النص، اذ يبني دلالاتها ويوجهها من خلال التماس بين جسد التذكر وجسد النسيان، لتولد تلك التداعيات وتبنى دلالاتها من خلال دوران الهنا والهناك، الان والماضي في حلبة الرقص "حين تتعمق الاسرار تبدأ الروح بالتحليق والبحث ومن ثم الوصول الى ما نريد، لذلك كنت ارقص بصدق ورغبة علني اصل الى اسرار الديار التي تمناها والدي طوال غربته"، اذا فالعلاقة بين الراوي والمرأة قد كشفت ثيمة النص "انت تأخذني الى الذكريات وانا اساعدك على النسيان".
اما شخصية الاب فقد لعبت دور الرابط الزماني، بين التذكر والنسيان او بين الراوي والمرأة، حيث ارتبطت بالتذكر بالإضافة لارتباطها بالنسيان.

عرض مقالات: