لم يعرف الوسط الثقافي العراقي شاعراً طيباً، وسيماً، دمث الأخلاق مثل الشاعر الراحل رياض ابراهيم، ابن بصرة الطيبة والوفاء الذي اضطرته الظروف القاهرة أيام الحصار للهرب الى كردستان. لم يمهله قلبه المتعب كثيراً حتى خانه في اللحظات الأخيرة قبل أن تصل برقية السماح بدخوله الى سوريا. مات رياض في "زاخو" شمال العراق ودفن فوق تلة قرب ابراهيم الخليل ثم واصلت عائلته رحلتها في طريق المنفى.
كان ذلك عام 1997.
لم يتمكن رياض في حياته من طبع مجموعته الشعرية الأولى التي قدمها كمخطوطة لدار الشؤون الثقافية التي رفضتها في بداية التسعينيات بعد أن دخلت المجموعة في تدقيق الأجهزة الأمنية آنذاك ولفترة طويلة وهو ينتظر صدورها لكنه صدم برفض طباعتها ومنعها بعبارة مكتوب عليها "ممنوع لا يخدم المرحلة"! جاء رياض الى بيته وقرر أن يحرق كل ما كتبه من قصائد ومقالات وحوارات كان قد أجراها مع شعراء وروائيين، ولم يبق على شيء باستثناء مخطوطة شعرية لمحمود البريكان بخط يده وأخرى قصصية لمحمد خضير وأيضاً بخط يده وبعض صوره مع الاصدقاء.
هموم رياض الشعرية اكثر من همومه الأخرى، فقد كان دائم التنقيب عن أماكن الخلل داخل القصيدة، وما أن يُشرّع بقراءة قصيدة حتى يشخص أماكن القوة والضعف فيها وبطريقة شفافة. ولمكانة رياض الطيبة كان دائماً يتحمل عناء السفر من بغداد الى مدينة البصرة بتكليف من مجلة الاقلام العراقية أو اتحاد الأدباء لإخراج الشاعر الكبير محمود البريكان من عزلته التي دامت نحو ربع قرن من الزمان، ونجح في ذلك بعد أن فشلت مساعي اتحاد الأدباء وشعراء كبار كانوا قد ذهبوا الى البريكان في منزله ولم يتسنَ لهم مقابلته، فقد كان معتكفا في عزلته، حتى أن الشاعر عبد الوهاب البياتي ذكر في جلسة خاصة داخل العاصمة الاردنية عمّان، أنه ذهب الى بيت البريكان منتصف السبعينيات مع بعض الاصدقاء ولمّا طرقوا الباب خرجت طفلة صغيرة لتقول لهم أن البريكان ليس في البيت بطريقة التلقين الواضح، وهكذا عادوا ادراجهم دون مقابلة الشاعر.
في قصيدة رياض ابراهيم "انتفاضة عصفور" والتي كتبها عام 1979 يجسد الحزن الشاهق الذي ينال من الانسان وبطريقة فنية عالية مشبهاً الانسان بالعصفور الذي يداهمه اليأس والموت، وليطلق الشاعر علانية ما يجول بدواخله من آلام ومآسٍ ومحن حاولت النيل منه في حياته، خاصة تلك التقلبات السياسية والدراماتيكية التي شهدتها الساحة السياسية العراقية آنذاك، إلا انه قالها من خلال ذلك العصفور الطيب الوديع الذي لا تخافه السلطة آنذاك!
لم يجعل الشاعر في قصيدته من أن تقاتل الأحزان الأفراح، بل ظل متناولاً قتال الأحزان للأحزان، كونه كان يائساً تماماً من قدوم الفرح إليه ولو بعد حين، انه حدس الشاعر الذي تآكلته الأحزان وجعلت منه أن يكون لقمة سهلة لها، في ظروف غاية في التعقيد والحزن جعلت حياة الشاعر البائسة أشد وقعاً عليه! لقد كانت انتفاضات الشاعر الراحل كثيرة وجريئة بطرحها مكنته أن يحتج داخل القصيدة ويرحل عن الحياة بطريقة مؤلمة! نقرأ أدناه مقطعاً من قصيدة رياض ابراهيم الشاعر العراقي الذي رحل عنا منذ عقدين من الزمان، إلا أن روحه وقصائده مازالت حاضرة معنا:
تتقاتل أحزانهم، شاهقون كخط المطر
وانتفاضة عصفور طيب
وفقها يمكن أن نخرجَ من تعالينا الأبدي
داخل جلودنا الحريرية
العصافير الطيبة ممنوعة من الرقص
ألف مؤتمر للبكاء ينعقد على أشجار السدر
وأصفر، أخضر بنيّ في أثداء البراعم الصغيرة
ممنوع من الرقص أيضاً.

عرض مقالات: