ارتبط المسرح مذ ولادته وحتى يومنا بجمهوره متفاعلا إيجاباً مع منجزه ومدركاً لمعطياته ودلالاتها ببنيتيها الجمالية والمضمونية بمساري السطحي والعميق للبنية، بل ولتعدد خطط الحدث الدرامي على وفق تعدد مسارات الصراع: أسسه ومخرجاته. أنّ احتفاليات اليوم العالمي للمسرح ليست استعراض كرنفالي عابر، بل التعبير الأعمق عن خطابات الحياة الإنسانية بمختلف مراحل العيش ومعالجات الحاضر واستشراف المستقبل. وإذا كانت شعوب العالم المحتفلة بالمسرح تتبنى مراجعات عقلانية حكيمة مستفيدة من التجارب فإننا لا نختلف عراقيا عنها في تبني تلك القراءة التي تكشف الثغرات وأشكال الخلل ووسائل استعادة النماذج الساطعة لمساهمات مسرحنا ومنجزه. فبعد أكثر من عقدين على التغيير في بلادنا وحيث ناهزت المسيرة على ربع قرن من المحاولات تلمس طريق التنوير ودمقرطة الحياة العامة بتفاصيلها يتطلع مسرحيونا بدءاً لانعتاق الخطاب المسرحي وتحرره في صياغة مادته جماليا مضمونيا وإلى توثيق المنجزين المعاصر وذاك الذي استقر في المكتبة الوطنية ومن ثمّ لاستثمار إعادة الإعمار في مرافق التعليم والثقافة ومجمل المؤسسات لتمتلك منصاتها المسرحية الى جانب صالات العروض المستصلحة والجديدة ومنها إعادة إشادة مسرح أكيتو في حاضنته السومرية البابلية التاريخية ومسرحا وطنيا يباهي به في شرقنا الأوسط الجديد باستقراره وبأفق السلام فيه.. هنا يتبنى مسرحيونا حراكاً نوعيا يسمو بالفرجة المسرحية ليرتقي بها من حال يريد فرض التلقي السلبي بكل تفاصيله ومحاولات استغلال المشاعر والانفعالات وتقييدها بسجن من خصال الأحزان واستدرار العواطف بإسدال ستائر سوداء، ليتم الانتقال بعناصر الفرجة إلى منطقة المشاركة الإيجابية في استكمال حلقات الحوار والوصول إلى موانئ إنهاء الصراع وحله لصالح الأنجع ولما يمكنه المساعدة في بناء الشخصية القادرة على صنع التغيير وإعمار الحياة وجوديا..

إنّ أكثر ما يحتاجه جمهور الفرجة عالميا ومحليا وطنيا هو تعزيز حملات السلام كونها الفضاء الذي يمكن للإبداع أن ينمو ببساتينه الفيحاء، وتلكم هي جوهرة حملات جمهور فعل البناء والتقدم وخطى التنمية حيث قدرات التأثير المتوافرة عند الشخصية الإيجابية؛ وهي حتما غير الشخصية المنكفئة على ما تتلقاه نتيجة نهج التلقين وترديد المقولات الجامدة المغلقة، التي تتلقفها ممزوجة بالتأثيرات الانفعالية الصارخة مما يستدر العواطف والانفعالات.

وهكذا فنحن بمجابهة صور الخلق الإبداعي كتلك التي جاء بها أساطين مسرحنا بدءا بجورج الثاني وأندريه أنطوان وكوستانتين ستانسلافسكي حيث واقعية الاشتغال وخلق ما يطابق الحياة ولكن بما يريده خالق جماليات المسرح لتأتي رمزية بول فورت الشعرية الممزوجة بالواقعي وتغادر نحو رمزية جورج فوخس وجوردن كريج وتنويعات ألوان أضوائه ثم أدولف آبيا وأضوائه المسلطة على الجواهر لإبرازها وتأتي فنتازيا ماكس رينهاردت وواقعيته الخيالية لكن إاكساندر تايروف سيعود بالفرجة نحو ثراء الروح وآبيا وليقدم لنا لويس جوفيه موليير إنسانيا لا أخلاقيا عبر توجيه الممثل للأداء الحسي لشخصيته وتسمو إرادة حورج بيتوييف شعريا بخلاف جاستون باتي الذي استثمر التقنيات بنبضها الشاعري على أننا نغادر الممثل إلى تقديم الحشود والمجاميع بلقائنا مع أروين بسكاتور فنصغي لهدير المجتمع المعاصر وصراعاته بملحمية ستلتقي لاحقا ببيرتولت بريشت وسنمر طبعا ببيتر بروك وأنطون أرتو وغروتوفسكي بتنوعات غنية في تعدد مساراتها الجمالية وفي اليوم العالمي لا ننسى منجز جاسم العبودي و إبراهيم جلال وسامي عبدالحميد وقاسم محمد وصلاح القصب ويوسف العاني وعقيل مهدي يوسف وهم يبدعون قيم مسرحنا باستنطاق بعضهم للتراث ومجالسه ومناظراته أو إحياء آخرين لصور واقعه بعد تغييرٍ أو إصلاحٍ حيث تحطيم الوضعيات الأساس في تراجيديات درامية لمحمولات أزمات مجتمعنا وإصلاح تلك الوضعية في كوميديا واقعنا وسخريتها مما قد يجابه حال العراقي من ظروف..

المسرح اليوم غني عميق الفلسفة ثر الثقافة بقدرات تنويرها الفكري وإزاحتها ويخيم على أجوائنا.. وإذا كان النظير يوم تأسس وأنطلق قد ارتبط باحتفالات الشعب وطقوس حياته فإنه اليوم يصحح الموقف من رؤية تربطه بالعقائد والتقاليد واشتراطاتها القسرية من قيود ومن حال تجميد ليقدم منطق الحرية في احتفالية تنبض بهدير مسيرات جمهور شعوب العالم تتحدى التقييد والتجميد وتستعيد حقها في حيوية العطاء والإبداع.. فلنحتفل معا وسويا بهذا اليوم لا بسياقات سطحية عابرة، بل بتبني منجز عصور المسرح والمسرحية بوصفه منجز البشرية وموئل إنتاجها ثقافة التنوير لعصر يسطع كما سطوع عصر التنوير والتقدم البشري قبل قرون..

وشعبنا أسوة بشعوب العالم يستحق ذاك الاحتفال الأبهى والأسمى.. وكل عام ومسرحنا بأروع منجزاته خير مساهم مع منجز البشرية ومسارحها باتساع وجودها.