فجأة أطلق صاحب المقهى صفّارة الإنذار الأولى، محذرا من خطر وصول الزنابير:"مرَّو عليَّ الحلوين..... ".
يردَّدها "عمو مشتت" بمرارة، يطلقها بلا مبالاة، متظاهرا بالبراءة، ومتنصلا من أي اتهام، حتى غدت فاصلة التحذير لازمة شهيرة غالبا ما صدحت بين جدران مقهاه، مشيرة الى وصول أفراد الانضباط العسكري.
كان يصنع من كفه اليمنى ما يشبه عنق البوق ثم يلصقها بفمه، كأنه يقوم بحركة مسرحية اعتاد على أدائها، وباتت حركة طريفة يلجأ إليها للتخفيف من ضجره. لكننا سرعان ما نلقف خطورة إشارتها على الفور وننتشر.
هالني ما حصل من عملية إخلاء خاطفة وانسيابية لخلق الله. هربٌ سريعٌ ومفاجئ من داخل وخارج المقهى. أفراد وجماعات من الهاربين تتنافس قبالة فتحة في جدار المقهى الخلفي. حصول تدافع وتراشق بالألفاظ، مقرونا بهمهمات وأصوات متقطعة، تعكس حالة بائسة من الارتباك والتوتر. اضطررتُ على إثرها إلى مرافقة بعض الهاربين المتجهين إلى مخزن حطب الأركيلات، مخبئنا السري الواقع خلف مرحاض عمومي، طافح بالمياه الثقيلة على مدى العام.
يحصل مثل ذلك الهرب بسبب قدوم زنبورين، وليس بسبب ضراوة القصف المدفعي الإيراني، فحتى لو سقطت ألف قذيفة، لن يتزحزح أحد من الزبائن، طالما أن قذيفة واحدة لم تسقط داخل ذلك المقهى بعد!
- "
بصرة، ثلثها افرارية، وثلث وقود للحرب، والباقي أمراض مزمنة"، هكذا غدت البصرة بنظر "عمو مشتت"، كلما مر بحالة نرفزة وما أكثرها، بل كان يحتد أحيانا، فتندلق آراؤه جهارا، يهتف بلا ضوابط ولا حذر: "ديره وصفت للـ"!
هناك، على رطوبة أرضية مخزن الحطب، تبقى رؤوس الهاربين مشتبكة مع مؤخراتهم وأياديهم وأحذيتهم، لتصنع أبشع لوحة اختباء بين الأنقاض والنفايات والروائح النتنة. صمتٌ ثقيل، تفضحه الأنفاس اللاهثة، وتمتمة الأدعية، وضربات القلوب، وروائح الآباط والأفخاذ الكريهة. لكنه غالبا ما ينتهي بإطلاق صاحب المقهى صفّارة البشرى الثانية: "العبْ والهوا بظهرك"، وفيها يدعو متظاهرا بالبراءة أيضا، جحافل الهاربين والمتخلفين لينسلّوا من أجداثهم، والعودة إلى مقهاه لإتمام دسوت الدومينو والطاولي، وتدخين الأركيلة، وارتشاف المزيد من "استكانات الشاي".