نعم مرة أخرى وأخرى.. رواية  برهان الخطيب عن شارع أبي نؤاس تعود إلى دائرة الاهتمام.. الرواية الحسنة مفهوم، مثل التحرير والإرهاب والنبل وغيرها، يحتاج تعريفا وافيا من جانبين متقابلين، بل متضادين، ليكون الكلام عنه مجديا ومبررا، وإلاّ كنا نكلم أنفسنا، أمام مرآة في أفضل حال.

أعود وأقول إن أول ملمح لنص ناجح، دون تفاصيل شائكة، هو قراءته طوعا لمنطقيته، من غير إغراءات مارلينية ومحسنات لفظية وفنتازية. ذلك ما دعاني الى تقديم رواية "ليالي الأنس في شارع أبي نؤاس" لبرهان الخطيب، وقد وجدتها اجتازت مرحلة فحص واختبار وتثمين بعد تناولها من أكثر من ناقد، في أمسية أدبية وأخرى، تحدثوا عنها بإيجابية، ومرت إلى إذاعة ستوكهولم العالمية حيث قدم برنامج خاص عنها، تخلله حوار مع كاتبها، إلى الإعلان عنها من مصر باعتبارها من أكثر سبع روايات عربية إثارة للجدل.

 الروائي الجزائري الطاهر وطار أول وصوله الى روسيا عام 1986 يطلب من الخطيب روايته الأصل عن شقة أبي نؤاس ليقرأها، ينتهي منها خلال ليلة، والمخرج العراقي قاسم حول يلتهمها خلال ساعات، في طائرة أثناء سفرة من بيروت إلى موسكو، يقول للخطيب عنها: هذا سيناريو عال جاهز للمسرح والسينما! الطاهر وطار يذهب أبعد، يقول للخطيب بالحرف مبتسما: البعثي الذي يمنع هذه الرواية غبي، فهي رواية بعثية بامتياز، قومية، لو كنت مكانه لا أمنعها!

لا ينتهي الكلام عن رواية أبي نؤاس بعد سنين، خاصة يجري استلهامها لأكثر من رواية عربية، شقة الحرية للقصيبي، ذاكرة الجسد، التي لم تكتف مدبجتها بنقل هيكل رواية الخطيب إليها، مع تنفيذ فكرة الشاعر، المحلقة عادة فوق الأمكنة والأزمنة، حميد يصير فلسطينيا، له اسم آخر طبعا، شلل اليد من التعذيب العراقي ينتقل إلى يد جزائري، عن إصابة من فرنساوي، والرسام العراقي يغدو رساما جزائريا، نفس البنيان والهموم، الفتاة العراقية المنكوبة تنقلب جزائرية، الخلفية تتحول من حرب الشمال إلى حرب الجزائر، تلك طريقة شائعة، هات واحدة أو روايتين أصنع ثالثة، وليصير العمل أبهة، السرقة عند كبار جَد، أو لا سرقة، تقوم الكاتبة بنقل مكيدة سيرانو دي برجراك المعروفة، كتابة رسائل الحب نيابة عن آخر، بقضها وقضيضها، إلى “روايتها”، و.. عيني عينك، الجسد بعشرين طبعة، ورواية الخطيب هذه تباع خفية، الكاتب الشجاع إسماعيل فهد إسماعيل يهرّب نسخها في سيارته، من بيروت إلى بغداد وأبعد، لتكون في متناول القارئ، ذلك ما يذكره صاحب مكتبة النهضة ببغداد، السيد حياوي الأب. هكذا هو الأدب.. عملية تواصلية، مرة بشجاعة.. بالنقض، ومرة، تعرفون كيف.. بفهلوة.

غير ذلك، ماذا في هذه الرواية، لماذا هي باقية ولسوف تبقى في اعتقادي تثير الاهتمام المتواصل، خاصة بعد اكتمال نظمها ونشرها بعد بيروت من دمشق والقاهرة في آن واحد؟! ثم مرة أخرى وأخرى يعيد مؤلفها الخطيب كتابتها في العقد الأخير ويقدمها مؤخرا إلى وزارة الثقافة العراقية.

أنشودة النهر

تلكم الأزمان البعيدة التي منها يرسم برهان الخطيب "شقة في شارع أبي نؤاس" فاتحة روايته اليوم "ليالي الأنس في شارع أبي نؤاس" كنا طلبة بكلية الهندسة، عند باب المعظم، نأخذ شارع الرشيد مشيا، إلى نهايته البعيدة، ساحة التحرير، ننعطف إلى شارع أبي نؤاس ونغور محاذاة دجلة الخالد مع تعرجاته، ونحن في لجّة نقاش عسير، على عادة المشّائين عهد سقراط، نحو الماضي وألمه، نحو المستقبل وأمله، معبدين أحلامنا برؤى فلسفية متنوعة، مما كنا ندرس وننقض، وتصورات لا تنتهي في الأدب والفن، وأحاديث في الرواية والروائيين، والغروب على الجهة الثانية من النهر ينبهنا بألوانه الأرجوانية على سطح النهر بأن للوقت أيضا أحكامه وحدوده.

مرة أخرى نتعاهد على تغليب واجباتنا الهندسية على الثقافية، ومرة أخرى تتغلب علينا أصوات الوجود، البعيد والقريب، نعود في اليوم التالي إلى تشريح الحياة والمجتمع والذات. وتتعاقب سنوات ويطرح برهان أمام الناقد الكبير د. علي جواد الطاهر الصيغة الأولى من رواية شارع أبي نؤاس، يقرأها الناقد، تعجبه، يميزه بمجلة "ألف باء" حينه عن كتاب الستينات، باعتباره نسيج نفسه، لا ينتمي الى أي من التيارين التجريبي والواقعي السائدين آنذاك، بل ويشجعه على إكمالها بجزء آخر، وهو ما يفعله الخطيب بعد أربعة عقود.

هكذا تتسع قصة الشارع العريق في "ليالي الأنس" برفعة للواقع على يده، أو بقلمه، إلى رحبة جديدة للأدب والفكر، وقت يظل العراق وأهله يحترق وما زلنا بسياسات بؤس، في هجير احتراب وآثار احتلال وفرقة، ولا سقف يحمي الرؤوس والنفوس غير الحظ والأدب السامي الذي يصلنا منه ومن البعض القليل عن سخاء روحي منقطع النظير.

لقد اهتممنا بالسياسة منذ ذلك الحين، بل قبله، لكن استبعدنا مبكرا منها أي ايديولوجيا، مصلحة الناس وحرية الفرد نبراسنا، ذلك أجده لا يزال أساس عمل الخطيب هذا، يقيم عليه بناءه الفني الجديد، بل وغيره. نعم، شغفنا بالفلسفة وأبحرنا معها، لكن تجنبنا مرسى معدا سلفا لاحتكار الرؤية، لتجميد حركة مجتمع، إذ بتقلب الأحوال قد ينشد الكائن حسن مآل.

بذلك التنوع والإرهاص أيضا فتحت رواية الخطيب "ليالي الإنس" نافذة على المثقف المهزوم المنتصر في آن، على ما ورائه، من لحظة تاريخية إلى أخرى، كيف لا والرواية الحسنة هي صوت الزمان "بتعبير ديورانت".

يأخذنا الكاتب مرة أخرى، كما في رواياته السابقة، بآلة الزمن، خاصته التي يجيد توجيهها، نحو هذا الجزء من الماضي، نحو ذاك، مرة أخرى إلى الحاضر، ليضعنا في مفترقات ومقتربات، يسحبنا معها من واقعنا، لنناقش أنفسنا والآخرين، بحوارات فكرية فلسفية، قد نسهو عنها حينا، لكن حين نعاود القراءة نكتشف.. إن لكل كلمة ضرورتها في الرواية! فماذا يريد منا هذا الكاتب المخضرم، اللعوب، حين يتركنا في مخاض، ينومنا مغناطيسيا، ثم يوقظنا بضربه الرنان، يهز أعماقنا، يستفزنا..

في النهاية.. يفجر ينابيع لحنه، فنغتسل بتدفقاته… هذا الماكر، غير الشرير، برهان، مهندس الكلمات الصعبة، والجمل الوعرة، إذ يحوِّل المتداوَل سردا إبداعيا، والمنيع أو المستحيل ممكنا، ذا إيقاع صاف، وقد تعجز عن اللحاق به، والتقاط ما في القرار.

إرادة من غير طحين لا  تصنع العجين

الرواية الجديدة تبدأ مع غزو العراق، تسقط أحداث الماضي على الحاضر، حميد "كردي شيوعي" يغادر بلده عام 1963 الدامي ويعود إليه، إلى ذاته، تعود أيضا أيام قصف قوات التحالف بغداد، بداية التسعينات، أحداث يشهدها صديقه الرسام "سامي" مرهف الإحساس، من شقته مقابل القصر الجمهوري، مرغما.

هو فنان، مولع برسوم البحر، شقته متواضعة في شارع أبي نؤاس تصبح محطة تغييرات كبيرة، على صعيد فردي وعام، قطار الحرب ينتزع منه ابنه نبيل، أقارب، أصدقاء، معارف، اختفوا، عادوا، يحلم بتفريغ ذاكرته من كل شيء، لعله يستريح من كابوس التأريخ، من لعنة الجغرافيا، لكن هيهات، احتلال يشعل كل البلاد، النار تقترب إلى بيته حثيثا مرة أخرى، ورغم بؤس ذلك وخطورته يقرر سامي مواجهة حياته المحطمة بروح تتجدد وتتوثب، بحديث متواصل لصديقه المؤلف عن الكارثة “هذا في ذاته تكنيك مبتكر، يكرّسه الخطيب قالبا فنيا مرنا لسرد روائي” كل ذلك مُبَرر ومقبول، مشوّق، إطلالة على حياة شخص آخر تُغْني على أي حال، خاصة شخص يعرف الكثير، نوى عدم الصمت، كنهر دجلة الزاحف أمامه وفيه الجثث طافية فرادى وجماعات.

إذن، العام الثالث من الألفية الجديدة، يعود صديقه وشريكه في الشقة "حميد" بعد غيبة مديدة، بين الفيافي والمنافي، فرحا مستبشرا بزوال كوابيس الغربة والوطن، فرحة لا تطول، تجندله طلقة غادرة، لا يُعرف مصدرها، عند مدخل الشقة، ويجد سامي نفسه مسئولا عنه، البحث عن راحة البال يتبدد هباء، من حكم إلى حكم، سيزيف يرفع صخرة قدره إلى القمة، تدحرجها الآلهة، وها هو يرفعها مرة أخرى، في إشارة لمّاحة لتداخل مصيري العرب والأكراد، بل مصائر البشر عموما على هذه الأرض.

أول "ليالي الأنس" مكالمات خارجية، يتمنى حميد عودة الأيام الخوالي الحسان، لكن صديقه الرسام ينبهه، إلى إن الوضع بعد الاحتلال في العراق غير محتمل. يعيب حميد عليه هذا التصور، منذ هذه اللحظة تنشق بوصلة المؤلف في اتجاهي الشخصيتين، ترصد ردودا مختلفة، لفعل واحد، تلتقي ثم تتطابق أخيرا، في وطن الإصابة الواحد، شخصان مختلفان في الظاهر عن مبعدة، يتبديان متوائمين متلائمين تماما عن مقربة.

رغم تباين تكوينيهما في الماضي نراهما متقاربين بالانتماء الوطني، في الرؤى والآراء دون افتعال. كلاهما يسعى بشرف نحو حياة أفضل، ذلك يعزز الثقة والصراحة بينهما، وللقارئ مع وسطه اليوم، استمرارا لما بناه مثقفو جيل الستينات، المختلفون فكريا، المنسجمون قلبا وقالبا. حميد الكردي الشمالي يجد أن  بالإرادة كل شيء يتغير، وسامي ابن الجنوب ينقضه، بأن الإرادة تتطلب مستلزمات، غير متوفرة الآن، وينتظر كلاهما اجتياز مرحلة النقاهة من الجرح، ومواصلة الحياة وتحدياتها.

يسعى بظلفه إلى حتفه

حين يعود حميد إلى بغداد ويلتقي زميله يتمادى بايجابياته، كون الوضع سيكون أفضل مع تسليم الأمريكان السلطة. سامي يعتبر ذلك أضغاث أحلام، يتمتم بلغة شكسبيرية عامدا، ملائمة لموقف مسرحي حوله، بل كمخمور يلعب بالكلمات بحثا عن بقية معنى: “قلت في نفسي احلم، لا بأس، لكن في بعض الحلم ضرر، إذا لا يكشف عن الخطر.

هذا الرجل قد يُقتل رغم الذكاء والحذر. لا سيطرة عليه من حب بطر. على لسانه.. ما شاء يسطّر الهوى، والكراهية.. تصيب الناس بالنوى.. يُدهش لعدم تغير صديقه كل الأعوام الطوال، وذاك يجيبه “الفضل للفن، ثلاجة مضمونة ضد العثة… وهو يحنو عليه، بعد إصابته ونقله من المستشفى إلى الشقة، ولإذكاء ذاكرته وصحته، إضافة إلى تحضير الأطعمة المفضلة له يمارس معه لعبة إيقاظ روحه، بمواضيع قديمة، بإيحاءات ربما صادرة عن تلك الفتاة التي عرفاها، مرسومة الآن بورتريت معلقا على الحائط، “نعيمة” ذات العيون الخضر، طبعا يتذكرها جيدا، يلتقي معها في بيروت، تجرفها حياة الحرب إلى هناك.

لوريل وهاردي وخليج اكوبولكو

الليلة الثانية عنوانها "الشقة" ننتقل إلى محور الرواية الجديدة، محور الأمكنة التالية، لها عدد الصفحات الأكثر، عبر سطورها الغنية بالحوارات ينقلنا المؤلف إلى أيام الانقلاب على الثورة عام 1963، يداهم الشقة أفراد من الحرس القومي، جلهم من الشباب المتحمس، المزود بالرشاشات، باحثين عن "حميد حويزاوي" الشيوعي الهارب..

تحت إلحاح رنين جرس الباب يخرج "سامي" إليهم عاريا من الحمام، وقت كان "عداي" ابن خالته والشريك الثالث في الشقة يغط في نوم عميق، لا  حظ  من خلوة مع صوت فيروز، ولا انكفاء عن السياسة، يجد نفسه في مشهد مرعب مضحك، "حردان" شبيه لوريل بالِقصر والنحافة، وأخوه "شرهان" شبيه "هاردي" بالطول والبدانة، رمزا غضب وشراهة. الثالث رومانسي، يحققون مع سامي، والرفيق يتأمل صورة البحر الممتد إلى أفق بعيد، لوحة لخليج اكوبولكو على حائط المدخل. إنما هكذا هو الواقع أيضا، متعدد الأوصاف، والأصناف، لكننا بالخوف الذي يحرك العالم، أو بغيره مما لا يتبين، نلتفت إلى واحد  فقط. مع إيغال الأخوين في إيذاء سامي يعزم على رسم لوحة في الغد، اللون الأسود طاغ فيها، بينما يستمر دجلة في الجريان غير عابئ بأحد، كأن المؤلف يؤكد على رعونة البشر "العاقلة" وحصافة الطبيعة "غير العاقلة".