تقع شعرية ياسين على وجه العموم بين ظلين يقفان خلفها، الاول التجربة الحياتية والاخرى التجربة الذهنية. وتشخيصنا هذا يتبعه استنتاج لا بأس ان نسربه هنا، ذاك هو ان ذينك الظلين الصانعين للتجربة بشكلها العام قلما يتداخلان، فحين تكون التجربة الحياتية حاضرة، تنتج نمطا من النصوص له صفات خاصة على مستوى الاداء الفني – بنية وتركيباً وتقانات ومن ثم رؤية – ويتخلل ذلك وضوح للموقف من المكان والزمان بل والذات نفسها، ومحين يكون الامر متعلقا بالظلال الذهنية، ينتج عنه بناء وفن ورؤية – قد تتداخل في حدود ما لكنها بالمجمل تستقل من حيث الرؤية وتختلف من حيث الفن – على الاقل بدرجات معينة.
ومن الضروري الاشارة الى ان ثمة تحولات تجري ضمن النمطين.
يظهر ياسين شاعراً في نهايات الستينيات من القرن الماضي كما يشير في مدونته الشعرية هو، ويكون "الوحش والذاكرة" مبتدأ مشروعه الشعري، ونصوصه تدور قريبة او ملامسة للبياتي وللسياب، تظهر في سمات البناء واحيانا في الصياغات لكنها تنبثق وتعبر عن رؤية الانكسار بشكل عام.
وترتبط هذه النصوص على امتداد شعريته بمجموعة من الخصائص يمكن ان نشخص فيها محليتها وانعكاسيتها، واعني الالتفات الى نقل مشاهداته او استذكاراته او تجاربه الشخصية.
ويظهر في شعرية ياسين طه حافظ ما اسميناه بـ "المحلية" وفيه تظهر عناية واضحة واهتمام بثقافة المكان. وفي المجاميع التي ضمتها المجموعة الكاملة في جزئها الثاني وضوح لاحتلال "المحلية" مساحة واسعة". وأهم ما يلاحظ في هذا النمط البناء الاستذكاري، فالشاعر ينطلق من لحظة زمنية قارة الى لحظة اخرى غائبة، ليظهر النص مجسداً صورتين لزمنين متقاطعين. إذ غالباً ما تكون مثل هذه النصوص مغرقة "بعاطفيتها". ويتجه الشاعر الى الصورة الابصارية، ينقل مشاهدات وملامح كما رآها.
لكن من المناسب هنا ان نقول ان سمة "المحلية" التي توحي بالتماهي مع المكان الام لا تعني الانضمام الى "مكان ما" دون آخر. يا سين تشغله الامكنة بما تترك فيه من قوة على الكشف. ولذلك يخصص مجموعة كاملة عن "طبرق" المدينة الليبية التي عاش فيها سنوات كما يشير تقديم المجموعة. ونلحظ ذلك ايضا في نصه "عن خبر من ظفار".
ولعل التجربة الذهنية هي الركيزة الثانية.
والتجربة الذهنية التي نريدها ليست منفصلة عن العالم الشخصي للشاعر انما هي داخله وانبثاق عنه. لكن ما يميزها – وهي تشغل مساحة اخف من الاولى – انها تعنى ببث رؤية، وتسعى الى تمثيل موقف وتمتاز في الاغلب بسمتين فنيتين.
الاولى تتضح في نمط البناء القصير للقصائد وتشغلها لغة تعبيرية تصويرية عالية، الشاعر فيها لا تشغله استذكارات او انعكاسات مراوية للصورة انما تفتنه مقدرة لغوية تستند الى مخيلة متوهجة. ونلحظ هنا ان المثيرات ذهنية قد تكون شخصية في مسرحية او رواية وقد تكون فكرة فلسفية وربما تكون ايضا فكرة تخطر في ذهن الشاعر فيتملاها وينتج عنها او يولد منها فكرة كما في نص "حادث في زقاق بابلي".
السمة الثانية وهي الاخطر فنا هي في القصائد الطويلة.
لكن النظر اليها بصفتها الذهنية لا يعفي ابدا من تأطيرها ضمن رؤى كتابية اخرى، قد يصح القول انها بمزايا خاصة، تفردها عن بعضها في جوانب وتقربها من رؤيته العامة في الكتابة الشعرية من جوانب اخرى.
بالاجمال يظهر في بعضها تصور صوفي مثل ليلة من زجاج على الرغم من انها تطرح ازمة الانسان المعاصر، واشتغال تاريخي مثل عبد الله والدرويش، وموقف رؤيوي مثل "قصائد حب على جدار آشوري" التي اعدها قصيدة واحدة.
هذه القصيدة تختلف عن قصائده الطويلة السابقة لا من حيث بنيتها النثرية او استرسالها السردي مما يخرجها من توصيفنا للتجربة الذهنية عنده، وانما على صعيد ما تطرحه من رؤية تجسد صراع الموت والحياة عبر تحولات رمزية واحالات زمنية تنتقل بين مدينتين هما بغداد وآشور.
عبر هذه الانتقالات الرمزية موقف يتجسد ورؤية تستقر وبناء شعري يتكامل.
"مقتطفات"

عرض مقالات: