لا أتحفظ ولا أتردد بالقول الاول: ان تحول الثقافة في مدينة البصرة خلال الفترة الحالية يستند من ضمن الاسانيد الاخرى الى تطور أول مكتبة نشأت في البصرة قبل تسعين عاما. اسسها صاحبها ومديرها باسم "المكتبة الاهلية" خالقاً جذور الجرأة الثقافية، لتكون مكانا اولاً للرشد والمشاورة بين الشبان المترددين عليها و لمصاحبة العلم والمعرفة والثقافة والثقة والصداقة والمودة.

الان اتذكر انني انتعشت كثيرا حين عثوري عام 1950 على نسخة من كتاب كليلة ودمنة بهذه المكتبة، كما انتعشت في بداية عام 2018 حين وجدت حفيد مؤسس هذه المكتبة الشاب النشيط "مصطفى غازي فيصل حمود" يطالبني بالموافقة على اعادة طبع كتابي عن "نقرة السلمان" في بيروت ونشره في مدينتي – البصرة - بما يقارب من 500 صفحة من الحجم الكبير . شعرت بسرور غامر بصحبة مؤسس المكتبة الاول وباذر بذرتها الاولى فيصل وبمسرة اخرى مع لاوي اغصانها غازي ومطهم ثمارها مصطفى، الذي غدا، الآن، مغردا بالثقافة في مدينة البصرة ،بصوت حسن.
ليس سهلا عليّ ان اعطي السيد فيصل حمود مؤسس وصاحب المكتبة الاهلية بالبصرة ما يستحق من الكلام في مناسبة تكريمه وتكريم جهده وما أدّاه من اشاعة الوعي بمبادئ الحرية واللجوء الى نشر وسائلها و طاقاتها بين مجاميع الشباب المؤمنين بالوطنية المتلهفين، لها وبها، حبا ومعرفة.
كان المؤسس فيصل حمود شابا عصاميا طموحا في زمان النهوض الوطني والقومي ، في فترة تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وما بعدها وقد وجد نفسه مواطناً عراقياً يريد لنفسه وشعبه التقدم الى امام بفرضية المساهمة الأولية، بما يملك من طاقات متواضعة بتأسيس "مكتبة" شأنها الاول والاخير، المساهمة في تطوير فحوى الوعي الانساني. بهذا وهب فيصل حمود نفسه كإنسان فرد للمجموع الاجتماعي من اجل رفعة مستوى وعي الانسان وهو شاب أميّ غير متعلم، لكنه قرر ان يقتحم صلب التعليم والثقافة.
كان افتراضه لنفسه مع نفسه علامة مهمة في زمان النضوج الثقافي الاول في ذلك الزمان ، من خلال قيامه بتأسيس واحدة من اوائل المكتبات التجارية في العراق، في عشرينات القرن الماضي. اسس هذا الصرح عام 1928 بمدينة البصرة بوعي متكامل بأن المعرفة الشاملة هي الحاجة الاولى في هذا الوعي.
اسس "المكتبة الاهلية" بمدينة البصرة، مدينة الفراهيدي وعمال النفط والموانئ والطلبة الثوريين، بعد ان اكتشف ان المرجح الذي يحتاجه جيل الشبان هو الحاجة إلى الوعي وادواته، أي الكتاب والجريدة والقرطاسية.


كان الوعي يحتاج الى كتب ودوريات صحفية ومصادر موثوقة فصارت المكتبة الاهلية اول من يستورد الكتب الثقافية والعلمية الى مدينة النفط والموانئ والنخيل والسكك الحديد، مدينة الجاحظ و والاصمعي والمعتزلة الفلاسفة وشبانها الجدد.
ثم وجد ان الوعي يحتاج الى "ادوات"، الى "قرطاسية" فصارت المكتبة الاهلية موردا من مواردها لتوفير القلم والورق والدفاتر والسجلات.
مبادرات فيصل حمود ترسخت في اعطاء مدينة البصرة واهلها من "القراء" و"الكتاب" اعمق الجذور الثقافية بتوفير عناصر الوعي وادواته معاً، للتخلص من التحجر الفكري ومن الجهل الناتج عن سيطرة عنف الخلافة العثمانية وولاتها الجاهلين على مدينة البصرة، التي كانت وما زالت جناحاً عظيما مرفرفاً من اجنحة الثقافة العربية لغة ومتوناً. كان فيصل حمود مرتبطاً روحيا بوشائج الثقافة الوطنية الناهضة آنذاك. حرر نفسه بنفسه واراد ان يكون هذا التحرر عاماً، شاملاً، مختبرا من مختبرات فعاليته التجارية في استيراد وتوزيع الكتب والقرطاسية من بغداد والموصل وغيرهما والتعاصر مع الروح الجديدة، التي يتلهف لها الشبان في ذلك الزمن وكل زمن.
بفضله وجهوده صارت المكتبة الاهلية في البصرة جسداً مرئياً من اجساد الثقافة العراقية حين وجدت جيل شباب ما بعد نهاية النازية والفاشية بنهاية الحرب العالمية الثانية.. جيلاً بعد جيل من الشباب والشابات يترددون عليها من جميع انحاء البصرة، من القرنة والزبير، من الفاو وابي الخصيب، مثلما يتردد عليها الاقربون من شبان البصرة والعشار وكنت واحدا منهم، بل اخفاني صاحبها بداخلها ذات يوم ليبعدني عن البوليس، الذي كان يطاردني.
كان موقع المكتبة في سيف البصرة بجانب مطبعة الاديب ومقابل مجمع المثقفين في مقهى "هاتف" قريبا من تراث ومعمار الشناشيل. هذا الموقع اتاح سمو الفرصة امام سمو الثقافة لكي يعلو. كل من يتردد على المكتبة الاهلية من الشبان يجد في صاحبها أباً حنوناً يريد تنمية طاقات الابداع بهذه المدينة الباسلة. كان المحامون من امثال حسن عبد الرحمن وسالم الوجيه ونصيف الحجاج ومرتضى الحجاج وكاظم علي جواد والمعلمون والمدرسون من امثال المعلم باقر البعاج والمدرس محمود عبد الوهاب والشعراء محمود البريكان وكاظم مكي حسن والقضاة من امثال مصطفى علي وحسين ميرزا محمود وحميد الحكيم والنساء المناضلات من اجل حقوق المرأة من امثال نظيمة وهبي وسميرة محمود وناطقة المبارك يترددون عليها لشراء الكتب والمجلات العراقية والمصرية اضافة الى ادوات القرطاسية. كان اطباء البصرة ومهندسوها من رواد المكتبة الاهلية، أيضاً.
استمر الكتبي العصامي فيصل حمود على المغامرة الحياتية بمثالية بريئة حتى صار علما من اعلام البصرة حين اتيح لأهاليها ان يكون فيصل حمود ممثلا عنهم في المجلس البلدي لستة دورات خلال ربع القرن الاخير من حياته وهو الرجل الذي ما توفرت امامه فرصة الدخول الى أي مدرسة ولا كتاتيب التعليم الاولي، بل تعلم القراءة والكتابة من خلال المكتبة كمكان ومن خلال زمان الكتب والصحافة، التي يتعامل معها في كل لحظة بقلبه وعينيه، بإرادته في تعليم نفسه بنفسه حتى صار يكتب بعض التعليقات في الصحافة المحلية والبغدادية.
فيصل حمود حمل وجها من وجوه البصرة. ساهم بفعالية المشاركة بتأسيس مكتبة لتكون مقرا لنشاطه الثقافي وعلاقاته الاجتماعية الواسعة لإذكاء الروح التقدمية من خلال توفير طاقات الكتب المعرفية لتظل مدينة البصرة عالية متعافية بزمانها واحداثها وتصميم شبانها على التقدم بطريق وحدة الزمان والناس من خلال ادوات الثقافة والكتب والصحافة والقرطاسية.
اليوم تمر الذكرى التسعون على تأسيس المكتبة الاهلية في البصرة حيث يقف فيها مديرا الابن الوفي غازي بن فيصل حمود ملتزماً بواقعية ابيه المؤسس الراحل فيصل حمود ، لا يكتفي الأبن بما حققته المكتبة الاهلية من ممكنات الثقافة في مدينة البصرة، بل انطلقت رؤياه في مثالية العمل على نشر انتاج الادباء البصريين وتحويل المكتبة الأهلية من اختصاص التوزيع خلال عمرها التسعين الى "دار نشر" بدءا من اصدار كتاب الكاتب المعروف الممتلئ ابداعا "محمد خضير".
نجد بالذكرى التسعين تحولا نوعيا آخر بمرحلة حماسية جديدة يقودها الحفيد مصطفى غازي فيصل حمود إلى جانب ابيه فيصل ، حيث ارتقى هذا الشاب سلّم العلاقة بين المكتبة الاهلية وجامعة البصرة، من خلال اقامة معارض الكتاب في أروقتها المتنوعة، كعمل منظم مسؤول لتوفير الكتاب امام ايدي وأعين الطلبة الجامعيين لتسهيل عملية وصولها إليهم.
اختصر كلامي الأخير بهذه المناسبة فأقول:
احدث الكتبي فيصل حمود قضية ثقافية عادلة في البصرة لها معنى الدأب والتطور والبقاء جيلا بعد جيل يفخر بها المثقفون جميعا ويعتزون بها أبداً.

عرض مقالات: