الصورة الفوتوغرافية وحسب سوزان سونتاغ هي عامل تشجيع الرغبة في إظهار الدوافع الأخلاقية المضمرة. فالرغبة ليس لها تاريخ. إنها تجربة تتحقق في كل ظرف، والصورة وسيلة لتحقيق محتواها عبر الذاكرة المؤجلة. إنها مُحرِكة بواسطة النموذج المبدئي الذي تقدمه. لذا هي وسيلة لتقديم محتوى الأزمنة المنسية، عبر ما تقدمه من معان ترتبط أساساً بالوجود البشري من جهة، وبالأمكنة المعززة بسحر المكان وتاريخه الباهر من جهة أُخرى. من هذا تلعب الصورة دور استعادة ما هو منسي، بعد زوال شواهد التذكر، فهي تاريخ مرئي ومجسد بحرفية كبيرة. لذا نجد في نماذج الفنان كاظم الخفاجي نوعاً من التعلق المنحاز للأشياء، فهو إنما يعمل عبر عين كاميرته على إظهار الأشياء والشواهد والنماذج بروح فيها الكثير من الرومانسية التراجيدية. لاسيّما ما يخص الأمكنة الأثيرة في نفوس الناس. كما وأنه يعمّق الدلالة خلال عرضه هذه النماذج، متبعاً دور المقارنة بين الأزمنة. فذاكرته شأنها شأن ذاكرة الآخر، لكن الاختلاف واضح بين التمني المكبوت، والمعلن الواضح. فيما يستعيد أي إنسان ما مضى مع الأزمنة، فإن تذكره هذا محفوف بثلم الحواشي، وربما يزحف هذا الثلم الذاكراتي نحو معظم صوّر الأشاء، بينما ذاكرة الكاميرا معززة بالحقائق، فهو كفنان يؤرخ الحقائق، ويُسهم في تنشيط ذاكرة الآخر. إن النص مهما كانت صفته وخصائصه ووظيفته، يعمل على تعزيز التاريخ في ذات الإنسان. فهو يتدرج من الجزء "محتوى الصورة" إلى الكُل. وبهذا اكتسب خاصية التسجيل والدعم خلال التماثل مع الحقيقة. ونقصد حقيقة التاريخ عبر الصورة. فالجزء هذا يرتبط بتفاصيل تستعيدها الذاكرة حال رؤية محتوى الصورة. ولعل ما فعله كل من كفاح الأمين، عامر بدر حسون، عبر الصورة الفوتوغرافية من استعادة تاريخ بغداد، يُعد أنموذجا فذا عكس وظيفة الصورة. وبهذا اعطيا مكانة واجبة التقدم في نشاط المؤرخ.
الفنان. الخفاجي مع قلة ما توفر لدينا من صورة، لكنها بالتأكيد عبارة عن عيّنات مركزة من جهد زمني طويل، جُهد انشدّ إلى مدينة عريقة في عطائها في كل الأزمنة القديمة منها والحديثة. النماذج وضعتنا ــ كما اعتادت دراساتنا فن الصورة الفوتوغرافية ــ أن نُصنّفها وفق ما جاءت به من محتوى أو غرض.
ظواهر في صوّر

في صورة عفوية كما يظهر عليها لرجل بلغ به العمر عتيا، يجلس مرتخياً بكامل أناقته، لا تشوبه خصائص العوّز أو الحرمان، ولا تنعكس على وجوده تأثيرات خارج وجوده البشري والإنساني. فقط خضع وجوده إلى دوافع وممكنات وجودية خالصة. وهذا الخضوع يعود إلى تقدم العمر، فالارتخاء في المكان، يخضع الى دوافع جسدية دماغية ذهنية. وغفوته تستجيب لأحلام مؤجلة، أو متحققات سالفة، يحاول استعادتها وفق خضوعه لحالة الغفوة القصيرة. فالإنسان كيان يستجيب للمؤثرات بشكل عام، لكن الجالس في المكان "الكرسي الأنيق" استجاب لمؤثر ذاتي، أي لإرادة ذاتية عفوية. وأعتقد أن نجاح اللقطة خضع للعفوية في الاختيار أولاً، وتعيين الزاوية التي حققتها الصورة ثانياً. أما ما يخص توزيع الضوء والظِل بالرغم من لونية الصورة، فقد أعطت للضوء القدرة على الكشف، وتواءم عين الكاميرا مع العين الأوسع، هي عين الفضاء الذي يحتوي هيأة الرجل. فالبنية الفنية وضعت هيأة الرجل ضمن مساحة الضوء، وأما الظِلال "العتمة" فهي خطوط عمقت الضوء أكثر لتُظهر أناقة الرجل ليس إلا. والظلال التي ظهرت على الوجه، إنما تشكيلات جسّدت طبيعة الاسترخاء الذي خضع له جسد الرجل. لقد عكست الصورة بكل امكانياتها الفنية والموضوعية عمق الظاهرة التي عليها نموذج الصورة.، وهي إن حققت الكثير من ممكنات الصورة المكتفية بصيرورتها، فقد حققت مجالاً مهماً في حقل دراسة الشخصية من الناحية النفسية. إنها صورة خلقت منحى فنياً وعمقاً موضوعياً خالصين.

شواهد وعمارة

تتميّز صوّر الفنان التي تخص العمارة والشواهد العمرانية العامّة؛ كوّنها تتعاشق مع حيثيات الفن التشكيلي في صياغة حراكها الفني. مستغلة بهذا عمق دلالة مفردات الطبيعة للإسهام في تجسيد هذه الشاهدة العمرانية، أو تلك العمارة. وبهذا اكتسبت الصورة مزدوجي الوظيفة والظهور. ولعله في تركيزه على الجسور، شكّل نقطة تعويض لكل ما اختزنه من صور لهذا المعلم المدني الحضاري، فهو يختزن صورة الجسر القديم المتحركة أجزاؤه بفعل حركة ماء النهر. والجسر حداثوي العمارة الذي تعرض للقصف الجوي الجائر إبان حرب عام 1991 ثم ما شيّد من بعد ذلك من جسر ربط جزئي المدينة. وفي هذا ركز مهارته الفمية على عمارة الجسر أولاً، واستنفار قدرة عينه المجردة في اختيار زاوية اللقطة ثانياً، ثم ترك عين الكاميرا متمثلة في درجة حساسية العدسة في لملمة حواشي وفضاءات المعلم، بما يمكننا أن نطلق عليه قوة الاختيار وسحر اللقطة. فالجسر يبدو في إحدى اللقطات يحمل خصائص الموازنة بين وجوده المادي الرشيق والممتد بين الصوبين، ورشاقته بالقياس مع سعة الفضاء. وما يزيده سحراً هو انعكاس صورته في ماء النهر المتدرج بالإزرقاق، الرائق السطح تماماً، فهو نهر أليف مذ ألفته أجساد الصبية، وزوارق الصيادين. السماء بدت انعكاس لصورة المياه، تمتد مع جسد الجسر، البساتين والبيوت البعيد التي لا تخفي جمالها. هذه الصورة فيها أناقة مفرطة، لكنها ذات أبعاد متوازنة.
في صورة أخرى للجسر التقطت بمهارة فنية عالية، بسبب اختيار وسط النهر بؤرة الحيازة للقطة. وبهذا تشكلت الصورة بمحتواها الباهر كما لو أنها لوحة تشكيلية خالصة، بسبب الاهتمام بتوزيع الضوء المتسلل بزخم من بؤرة أشعة الشمس في البعيد. شعاع الشمس توزع بدرجات انعكست أكثر على سطح مياه النهر، فكشفت أجزاء من الأشعة عن سكون سطح النهر، وفي أخرى كانت العتمة تتقاسم سطح مياه النهر، لكنها بترددها لم تخف جمالية السطح المتكسرة حركته. الشمس كشفت عن جمالية الجسر، وعملت بريشة فنان على الاحتفاظ بصورة أعمدته وسلاسله، بأن خلقت من العتمة معلماً جمالياً. العتمة في صور "الخفاجي" لم تكن لتعكس عتمة الذات كما لاحظنا في صور الفنانين مثل" هادي النجار، أكرم جرجيس، أياد زكي". في حقل الصور عند الفنان. الخفاجي"، تُسهم أشعة الشمس بموازنة فنية لرسم كل ما من شأنه تجسيد جمالية الشكل، وأرى أن هذا المتحقق كان بسبب خضوع الفنان مع عين كاميرته، إلى الرؤية الجمالية في صناعة الصورة الفوتوغرافية. وفي صورتين كانتا تتضافر فيهما الأشكال التجريدية المستوحاة من الطبيعة، وليس بتأثيرات التقنية التي تُبعد النص البصري عن عفويته. فقد ترك المجال لعين الإنسان وعين الكاميرا كي تتضافرا لخلق لقطة، يستطيع المتلقي البصري أن يُفعّل عينه المضافة للعينين الأُخريين، لتكتمل دائرة الصورة. لأن الصورة أساساً ملائمة لمتلقي بصري حذق وذو شفافية عالية. في الصورة الأولى ثمة تضافر لأطياف الألوان، التي شكلت من سياج الجسر ناصية للتطلع، وساهمت عين الكاميرا في صناعة متخيّل روحي خلق من تجمع الألوان بأطيافها الاشتقاقية، قباباً ذات زرقة سماوية باهرة. إن المهارة الفنية نشطت كثيراً بتحويل التصوير إلى دربة شعرية الأبعاد. فالناظر إلى المشهد المصوّر، ينشّد إلى روحانية المحتوى، المنبعث من جمالية الألوان ذات الطيف الروحي والقدسي، كالأزرق والأخضر ومشتقاتهما والأسود غير الحزين.
في صورة أُخرى عكس قدرة سطح مياه النهر على ابتكار مشهد فيه سحرية عالية. فالأضواء التي تصدر من جانب يبدو بعيداً نسبياً، انتشرت بتفاوت شعري خالص، وتشكيلي متمكن. مصادر الضوء وزعت أطيافها على سطح مياه النهر، بحراك لوني متباين، يحتشد فيه الضوء مبعداً العتمة، ليس بصراع تزاحمي، بل بتآخ تتحكم فيه مصادر الضوء من جهة، وقدرة سطح مياه النهر من جهة أُخرى، خلال عكس التكسرات المائية ــ الضوئية. بينما العتمة تشكل حدوداً فاصلة بين متشكلات وجود الثنائية على السطح. تبدو الخربشات اللوّنية المزيجة بين الضوء والعتمة، كما لو أنها من صنع فرشاة رسّام.
في صورة لمنحوتة. الحبوبي" الذي خلّدت وجوده ذاكرة المدينة، استغل الفنان بزاوية مهمة، ساهمت في إبراز الجسد على هيبة، تعكس هيبة الشاعر. حيث تضافر الأسوّد والأبيض في تشكيل بانوراما النصب. صحيح أن اللقطة خضعت إلى إرادة الضوء الذي فرضه نظام الفضاء الطبيعي، لكن عين الكاميرا لها مواضعاتها الفنية، وهي تمارس فعل تسليط الضوء على هذا الجزء أو ذاك بنسب ساهمت في تجسيد ضخامة التمثال. لا سيّما اشراقة وجه الشاعر مثلاً، وعلامة طيات الورق التي تحتوي على قصائد الشاعر، وطيات جبته التي ظهرت على وقار واضح. كل هذا عملت الكاميرا على تقنيته، مستغلة وفرة الضوء في ساحة زاخرة ومركزية في المدينة. إن الفنان يخضع في لقطاته إلى إرادة ذاتية ــ فنية تمتلك رقيباً انتقائياً في صناعة محتوى الصورة وحراكها. في صورة أخرى تُعد نوعاً من استعادة الذاكرة، لأنها ساهمت في دراسة مكان أثير تاريخياً وهو يخص معلم لكازينو في متنزه المدينة القديم. الصورة بعرضها هذا؛ إنما تسعى الى عقد مقارنة خلال العرض لصورة الدمار الذي حل بالبناية، شأنها شأن بقية المعالم. الصورة جسدت طبيعة البيئة ذات الاخضرار مقابل الهدم الذي تعرضت له البناية.
إن الاستعادة هذه تؤكد حقيقة واحدة في تاريخ البلد، يُلخص في كوننا غير معنيين بالجمال، لذا سعينا كشعب لتدمير جماليات أمكنتنا في المُدن، وهي غريزة دخيلة على الجنس البشري، وحسب "مرسيا إلياد" هي عود أبدي لماض خارج الإرادة الإنسانية. والصورة لم تكلف الفنان سعياً فنياً، فقد اكتفى بوفرة الضوء في فضاء المكان، لكي يكشف عن حجم الدمار على المعلم الحضاري.

عرض مقالات: