" كل شيء في هذا العالم ساكن، ساكنٌ جداً، ما من إنسان يرفع صوته... ليس سوى صمت الواقع، هذا الصمت الدافئ المنعش."

بهذه العبارات المموّهة تحديدا يستهل الأديب توفيق حنون المعموري حضور روايته "شواكة سويلم" ليقترن المكان "الشواكة"باعتباره عتبة الرواية – المحلة الغنية بأهلها المحاذية لنهر دجلة والتي كان جل سكانها من الوزراء والتجار وأغنياء بغداد في العهد الملكي في العراق بينما كان أهلوهم القدامى يمتهنون بيع الشوك الذي كان يأتيهم من منطقة كرادة مريم لاستخدامه كوقود في الخبز والطبخ والتدفئة شتاءً، لتؤثث للفضاء الروائي أسُسَه الأولية توظيفاً للمشهد السردي عبر أول خارطة للعالم رسمها العالم العربي الإدريسي عام 1156 م.

وعَبْرَ "الإدريسي" وحكاية ندم الغربة لابن زريق البغدادي يُدخل المعموري اشتغاله الافتراضي التاريخي ليسقطه على الحاضر وفق رؤية تنضجُ عبر وتيرةٍ  من الاستكشاف التاريخي ومحاكاةٍ  للواقع العراقي .

لقد تحولت محلة "الشوَاكة" في ثنايا الرواية وخارجها إلى قضية انسانية ووطنية سرعان ما خنقها الواقع العمراني الجديد بسبب شق شارع حيفا وبناء العمارات السكنية فيه عام 1981 ، فتقزمت إلى ما يشبه السجين فاقد الحرية بعد ما كانت تتمطى في فضاء مفتوح وشاسع وعلى غرارها تقزّم "سالم صيهود الشعلان" إلى " سويلم" الشخصية الرئيسة في الرواية.

وكما لا يخفى كانت  هذه المحلّة تُكنى مع منطقة الكريعات وباب السّيف بـ موسكو الصغرى لدى اليساريين ستينيات القرن الماضي، ذلك من منطلق مسار بعدها الوطني.

"الشوَاكة" عنصرٌ غالب في السياق الروائي فقد ورد ذكرها اكثر من خمسين مرة عبر مسار الرواية، اسمٌ حاملٌ أكثر من دلالة وهي محورٌ مكاني وروحي اساسي في السرد بذلك حافظ الكاتب على خصوصية المكان الاجتماعية  واصالته. وقد أشاد الروائي عبر مخياله  حتى وظف الاسم منطلقا من كونه "شوك واخز للأعداء" معتمدا على تقانته في الوصف والصورة الفنية والرموز عبر مظهرها الحسي حتى أن الوصف يتلاءم والاشياء التي توجد دون حركة مركّزاً على الموجودات الحياتية في سكونها الفلسفي. بهذا يضفي على خطابه الروائي ثيمةً سياسية تتصاعد تدريجيا.

فـ "الشوّاكة" لا تعيش بمعزل عن باقي عناصر الرواية إذ هي المكان الذي يمثل نواة المنطقة التي تحظى بقربها من نهر دجلة المكان التفاعلي والذي أسبغ عليه من روحه ليكون بمثابة خشبة مسرح واسعة بكيانها الزاخر بالحياة والحركة كما أولى المكان بغداد الحاضنة بوصفها النقطة المحورية مغطيا بهذا الرمز الماثل حتى يومنا هذا وممتدة الى المستقبل لتغطية الوطن ككل محافظا بذلك على ملامح الوطن في دلالته للمحلة "الشوّاكة" بعينها سابغا عليها بعدها الثوري. فاضافة الى دور المكان المكمل لدور الزمان في تحليل دلالة الرواية فقد ساهم من ناحيته في تأطير المادة الحكائية مشكّلاً بذلك المسار السالك للسرد.

زمن الرواية وجودي يستحضر الماضي ويرحل الى المستقبل ثم يعود القهقرى بـ "سالم صيهود الشعلان" بعد ان ضاقت به وبعائلته الصغيرة سبل العيش، ليجدَ نفسه في لحظة من اليأس مغلوبا على أمره، خارج الزمان والمكان عند حدود اوربا.

لقد استطاع الكاتب معايشة المتخيّل عبر التقليب في هوامشه والاشتباك معه بحيوية . ومن خلال لعبة تواصل الحدث عبر فصول الرواية  الخمس عشر – عدد سنوات التغيير ما بعد احتلال العراق 2003 م - يتقن السارد مداعبة إيقاعاته الحياتية بطقوس وعادات الحياة المتبعة في عالم " سالم " الجديد، فيهذّب مما علق به من تهور – فيما يسوق شاحنة القمامة – ، من شخصٍ منفلت إلى آخر تُلزمهُ قوانين البلاد بالهدوء في التصرف وعدم التهور كي لا يغدو ضحيةً للضرائب. فيشي به الحال بشيء من الاستقرار والحب ، بذلك تتواتر ثنائية المتخيّل لدى الكاتب فيقدم للقارئ سيرة فتاة لبنانية "سحاب" من عرب الشتات يقع "سالم" في هواها، وتحبه هي بالمقابل ، فيتزوجان وينجبان طفلا أسمياه "أمل".

الا أن السارد الحي وعبر اهتمامه بالهوية العربية كثّف اشارته في شخص "سويلم " خريج قسم اللغة الانجليزية المشارك في حرب الخليج ، حربٌ لا ناقة له فيها ولا جمل. فصار فوق همه الذاتي يحمل هم وطنه المضاع بعد انخراطة في اختبار قبول الهجرة، فيستجدي عطف الأمريكي ويلتحق بمن اختير من الشباب من ذوي البنية القوية للعمل في خدمات الكناسة وحمل اكياس القمامة في البلد الحلم حيث استقر به المقام في  احد أحياء أمريكا.

مقدمة الرواية يستعرض السارد قيمة الحياة الحرة وأحلام المواطن البريئة عبر مشهد حياتي مسالم يكتنفه الهدوء نهارا والصخبُ ليلاً.  فصار يستحوذ عليه بكل ما فيه من أحاسيس فلا يتعارض مع قلق الوجود طالما هناك ضوءٌ  وأصواتٌ تومضُ في أنّ الحياة لاتزال قائمة وأنه " على قيد الحياة".

تبدأ ثيمة الرواية من استحضار الشخصية  التاريخية العربية الشريف الإدريسي وهو يقدم أول خارطة من نوعها في العالم، ونزولا عند رغبة إله الحرب يرسم الإدريسي خارطته دون "حدود" للبلدان فإلهه الشرس " يضع الكرة الأرضية بين يديه ويأمر الإدريسي أن يثيرَ الزوابع هنا وهناك مستعينا بخارطة  البترول التي يوزعها حسب أوامر إله الحرب "،  مما منح إله الحرب الفرص لأشعال حروبه بين بلدان العالم .. كذلك يضعنا السارد موضحاً "الخطأ" الجسيم – بحسب ما يرى – من اشتعال الحروب وتراكم المصائب، فلا إمتاع ولا مؤانسة إنما حدود جديدة على خرائط البترول " لتكون هدية لأعياد نوروز جديدة"!

على أن العراقيين ما فتئوا يصرّون على التراحم فيما بينهم وليس ابلغ من عبارة رفعوا شعارها  أعلى مبنى مقهى – جابر – " العراقيون اكتشفوا إسماء جميلا لبناتهم .. وئام!".

"الأخطاء" هذه المفردة التي لذّ للسارد تكرارها جموعا وفرادى اثنتا عشرة مرة ، حمّلها للخطيئة الاولى التي جرّت إلى كل ما تبعها من ويلات. ولا يفوته أن يغمزَ ساخراً لأخطاء أخرى "مُعسّلة" كتلك المعطّرة بـ "اليانسون".

اعتاد العراقيون على نداء التحبب لأبنائهم وليس من باب التحجيم على أن أهوال ما عانوه من حروب دفعهم الى الانزواء اتقاءً لشرور الاستغلال، ودخل كل من الذل والاضطهاد  " ليقزّم" الناسَ الرافضين والثائرين على واقع التضييق والضغوط على الحريات الشخصية.

فيما يتدخل السارد بلمسة منه باثا روح التواصل لدى الفتى "سالم" باستئناف ذكي يتكشّف عن طلاوة " أعطيناك الحق أيها الفتى كي يكتمل حلمك اللذيذ".

مثلما أعجبت سالماً  لعبةُ الضوء والظل فقد استمرأها السارد في تتابع ممتع راصدا تلكم الألوان من الوصف حتى يضيء بواسطتها مسار سرديته بطريقة جاذبة كما في " التمثال المنحوت.. ذي اللون المائل إلى الاحمرار..". مثلها مقارنة موت العصافير على الاعمدة الخشبية المثبتة عند حافة البحيرة.

مناظرة شيّقة نلتقيها بين "سحاب"  الطائر المنقذ  و"سويلم" الحالم بإنقاذ ولو طائرٍ واحد من تلكم العصافير.

وكما لا تفوت الكاتب شوارد سخريته في أكثر من موقع راصدا بذلك واقعا حيّاً غير مفتعل – "سويلم" العراقي وهو يقود في احد شوارع أمريكا، كابسة القمامة بتهور ثم التزامه بعموم الهاجس العام والنظام المتبع في بلاد الغربة .. 

بدت أمريكا لـ "سالم صيهود الشعلان" بوصفها فضاءً للحلم والحرية والتنوّع ، على أن هذا الإنطباع سرعان ما ينهار مع تقهقر وارد فرن الصمون في أمريكا وتراجع مبيعاته أمام ما هو جديد ومتطور وسريع الانتاج. ذلك ما دفع باحساسه إلى الاحباط. مع الرأسمال وتكالبه لن يكون هناك مواطنون أخوة  سواسية بل سجارا لأتون حروب مفتعلة وبطالة وشتات.

كما تشير الرواية إلى حالة استراق دولة الرأسمال للأيدي العاملة الرخيصة، حيث تمتص قوّتها ثم ترميها كما ترمى الليمونة المعصورة. تلك هي النهاية الدراماتيكية  الحتمية لوضع العراقي المغترب.

لقد دلق الكاتب دواتَه وكسرَ ريشتَه بما يتوافق من انعكاس ذلك مع صدى المثقف المغترب غصبا عنه.  هنا يبيّن الكاتب تعالقا واضحا بين ما هو تاريخي  وسردي.. لكن يتبيّن لنا أن الرواية لا تؤسس إلى دول جديدة اخرى بفعل  نتائج الحرب وقد أدرك الراوي ذلك فلم تفته آثار أقدام إله  الحرب  - الإله الشرير – الذي يستهدف ذرية الناس المسالمين ، الإله الشرير و " عميله الإدريسي" الأقرب إلى عِشَّة "الشوّاكة" التي أرضعته حليبها النقي الصافي والتي تعجز " كل علب حليب النيدو أن تأتي بذرّةٍ من مثله".

هكذا اكتفى "أحد شياطين" إله الحرب "أن يثير حرباً بين أبناء البلد الواحد ، شتت شملهم ودلّهم على أفضل طرق الفرقة والتناحر، .. أفسد عليهم كل مشاريعهم، ... نفث فيهم تلك الروح الشريرة.. من البغضاء والأنانية".

ينحا الكاتب في مواقع مهمة إلى الفنتازيا كأغلب ما تعامل به في رواياته السابقة معبرا عن عمق القلق والحزن والضغوطات النفسية سيما موقف "سالم صيهود الشعلان"  حين يُخيّل اليه وقد تحول إلى "أدنى من عقب سيجارة "، إلى مسخٍ أقل ما فيه أنه يُذكّر بمسخ كافكا.

كما أفادت الرواية من الرموز التاريخية وقدّمتها وكأنها شخوص حيّةً فعلا.  اذ استفاد الروائي من الوقائع التاريخية واعادة حضورها بدلالاتها السردية عبر منظور تخييلي وافتراضي لا يخلو من سحرية رمزية منشدّة إلى منزلة الواقع البغدادي في نفوس الناس مضمنا إياها حب الكاتب وعشقه ذكريات ساهمت في التأسيس لشعوره بالمواطنة.

لغة الرواية تميزت بأسلوبها الرصين سيما وكاتبها شاعر متمكن من مفرداته وتوظيفها بنية السرد بحثا عن ممكنات التغيير والتمرد.

لقد بذل المؤلف مجهودا واضحا في تعاشق ما هو تاريخي عبر انتقائه الموفق لرموزه التاريخية والمكانية كاشفا عن عشقه الكبير لبلاده.على أنّه لم يستسلم لإرادة الاحتلال باستباقه السردي وفضح طبيعة سلوكيات سياسة شركات الرأسمال ولو بطريقة تحاثيّة.

لتبقى "الشواكة" وطنَ كل العراقيين تتوضأ بمجرى دجلةَ محتضنةً الجامعَ والمعبدَ والكنيسةَ والكنيس.

عرض مقالات: