ينتمي الشاعر خضر حسن خلف إلى مدرسة شعرية متفردة لا تتطابق معاييرها الجمالية مع معايير الشعر السائد إلا في الشكل الذي تؤطّره جماليات تعبيرية عامة يتميّز بها الجميع، في حين أن فضاءه الشعري يتحول بصفة تامة إلى بنية لغوية نرى فيها خصوصية متفردة، ويستحق وحده هذه الميزة التي لا يضارعه فيها أحد، لغرابة تراكيبها وسماتها وبعض مظاهرها الاستعارية.

في هذا الديوان وكما في دواوينه السابقة، التي يعتمدها كمفاتيح لفك ألغاز الواقع وتأويله له، إذا سلمنا بمزيد من الجدل أن الشعر برمته هو ضرورة حتمية لا ندركها إلا بوعي نقدي أصيل، يصاحبه في ذلك تأويل، وهذا النزوع يحتل التراكيب الشعرية كلّها. إن قراءة موسومة قبل الولوج في التفاصيل تشير إلى أن تجسيم الحزن شيء من تجسيمات الروح، أما علاقة المستهل لريلكه بالنص "عسل الكلام" فتبقى علاقة جدلية تغذي "المستهل والنص" بوحدات متشابهة مآلها الوجع اللذيذ المثمر:

"نرسم أنفاسنا المتلاطمة بحروف تتماهى قرنفلاً فاضحاً وأوجاع حروب".

يمكن أن تضيع المعاني الدلالية بلا ريب داخل كل سياق، وتندرج ضمن عوامل التعرية التي تمتد تباعاً إلى عمق التراكيب الشعرية.

ويمكن أن نلاحظ أيضاً في قصيدة "خلاصة الكلام" أن علاقة المستهل بالنص هي علاقة جدلية، أما الألم فصيرورة، وهذا المفهوم ينطبق أيضاً على مضمون قصيدة "عسل الكلام" فباللغة تستقيم المعاني ويعود التوازن إلى التعابير لتكون متساوية في القيم والدلالات، فالبلاغة هي الصيرورة اللغوية في موضوع الشعرية، وهكذا يجب الاعتقاد أن اللغة لا تفرض بالضرورة رؤى من خارج سماتها الا نادرا، وفي نطاق ضيق جدا، وفي استقرار النص أي نص شعري كان يتطلّب في الأقل خرقاً في جدار القاعدة السابقة للخروج من قمقمها اللغوي، ومن وحدانية موضوعها لإسقاطها خارج المعادلة بغية الحفاظ على القيمة الجمالية ومحتواها الأدبي. إذ ليس من قبيل المصادفة أن تتحول الكلمات إلى مشاعر جياشة تستبطن دفء الصداقة، وقد نتلمس علاقة الصدق في الأسلوب، في حين أن الوظيفة الدلالية تجسد هذه العلاقة المتينة بين الشاعر والفنان المومأ إليه في قصيدته الموسومة "حلم وردي"، وهذه المعاني في وسعنا أن نكتشفها في صورة مشاعر نحس بوجودها الحميم في نواة شعرية قائمة بذاتها وفي خارجها، في صورة استعارات مجازية يمكن أن يكون لوجودها أهمية لإغناء القصيدة. وهكذا يغدو الحلم الشفيف مرثيةً يستعيد فيها الفنان قاسم علوان مستذكراً مناقبه وأحلامه بلغة عميقة الدلالة: "تتناسل أحزاننا على وجيب الدقائق"، هنا نرى الشاعر تارة يستعير جملة من ملحمة جلجامش لإغناء الفكرة "إلى أين نسعى أن الحياة التي نبغي لن نجد" وتارة نراه يستعير عبارة من الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو:"لأنني أعيش في سلام مع الناس وفي حرب مع احشائي".

ففي قصيدته الموسومة "وصايا أبي التسع" يمكن أن تضيع المعاني الدلالية بلا ريب داخل كل سياق، وتندرج ضمن عوامل التعرية التي تمتد تباعاً إلى عمق التراكيب الشعرية.

 إن غياب الرؤية الجمالية يمكن أن يولّد تأويلاً ناقصاً، أما اللغة فتضمحل تدريجياً وكل ما يمكن أن نقول عنها إنّها تتحول بداهةً إلى أفعال حكمية لا تسمح بتحول بنيوي يتعلّق بالبنية ذاتها، ما يجعل من الوصايا التسعة تغدو حكما تصلح لوظيفة واحدة ويصبح الشاعر بهذا المعنى "مجرد وسيط للدلالة"، وهذه ليست مثلبة، فالتناقض في الشعر من منظورنا شرعي، ومثلما أريد للوصايا أن تصبح حكماً أُريد كذلك لفعل الأمر في "أدرك شهرزاد النعاس" أن يختزل اللغة وينفرد بها ليغدو المفتاح عينه في أصل النص، وأفعال الأمر المحفزة هي التي تكون في تنويعاتها فضاء النص، وربما ستكون بدورها الدلالة الجوهرية التي يكتشفها القارئ بحضور أو غياب شهريار، والقارئ يصبح حينئذ كاتباً ضمنياً يقبض على الدلالة ويتابع الحكايا/ الحلم/ باهتمام، في هذه المقاربة وبعبارة أخرى أن شهرزاد لم تخاطب شهريار الغائب، ولا ترمز إليه بشيء، بل تفعل ذلك لتحث شهريار العصر الحاضر على تغوله السافر في الغياب انطلاقاً من رؤية يمكن أن تؤول حسب اجتهادنا: "نم وقد أفاقت الأزقة على ضمور الخيط الأسود وأدركنا الصباح واختفت ظلال آخر شخصية في الحكاية".

العناوين الموروثة:

أما القصيدة التي تحمل عنوان فالنتاين، فهي تشير إلى وجود بنية تعبيرية تنطبق دلالتها على "سلسلة الجمل" التي تؤدي "وظيفتها التركيبية" بدون أن تبتعد عن وحدة الموضوع وسياقه البنيوي، وكل ما يتصل بالحادثة الرومانسية الشهيرة في تاريخنا ـ أي قصة فالنتاين، التي تتداخل عناصرها البنائية وتكون عنواناً واحداً من صلبها، ومن صيرورتها تنطق عن طواعية ولا تتباين في تفاصيلها عن طبيعة الحدث: لا يعدو الشعر برمته مؤثراً وكافياً لتسويغ وجوده، إذا لم يسعَ إلى إعمال الفكر في بنيته اللغوية، وما لم يأخذ بعين الاعتبار تغيير الرؤى التقليدية وتطوير سماتها البدائية، لذا ستكون الغنائية ـ التي نأخذها كمثال ـ معدومة الفائدة ويكون دورها محدوداً، إذا ما فرضت تأويلاً خارج سياقها الأدبي، والواقع أن نظرتنا الإيجابية عن الشاعر خضر حسن خلف، يمكن أن تضعه في صلب الشعرية العربية، وبهذا المعنى يرى الشاعر أن الاختزال في اللغة موضوعا مهما وإن "التغيير في الرؤى" شرط ضروري لاستعادة هيبة الشعر وإمكان تقويم وحداته بغية التخفيف من سطوة الغنائية، التي لا يرى الشاعر فيها نفسه إلا بعد أن تتحقّق شعريتها وتحذف الشوائب من تراكيبها الذهنية البدائية. فما ينطبق على قصيدة "احتكمي إلى الورد" من تأويل نقدي نستطيع أن نسقطه عملياً على قصائد سابقة تحمل السمة الغنائية نفسها، فربما لا توجد سمات ثابتة للتأويل لأن التراكيب الدلالية ترفع من شأن قصائده، وتسمح لها بالانتقال من مستواها التركيبي الغنائي أو الحكمي إلى مستواها الدلالي لتفكيك هذه الفرضية مع أنّها بنية قائمة، وإنّه لمن المفيد أن نلمس تحولاً نوعياً في طبيعة سياقاتها أي القصائد للانعتاق من عبودية الغنائية، وهذا ما يحدث فعلاً عن طريق تلميحه لموضوع الشعرية، وبما يتعلّق بتحول بنيته اللغوية، غير أنّه لم يكن تحولا كاملاً بالمعنى الدقيق، ربما يكون من العسير على الشاعر أن يغيّر من نمط أدائه الشعري كلياً ما لم يغيّر رؤاه الأدبية، وإذكاء الفكر فيها لتكون من صلب الفعل الشعري وليست من خارجه ولعل المقطع الشعري الاستهلالي الموسوم "من ثغور التواريخ أراني" لبول فانسانستي، يفسر على أنّه استعارة لإغناء المحتوى لا كقيمة أدبية ملموسة يقوم بصنعها الشاعر حصراً.

الصرامة اللغوية:

لا غرو أن القصيدة "1 تموز 1952" مثلها مثل القصائد التي تعتمد على نظام لغوي من العسير أن نضبط إيقاعها بيسر إلا حينما نكتشف مضمون صورها إذا ما تمكنا من قراءة بنيتها قراءة صحيحة، ومن البديهي أن نظفر بالدلالة، وهذا ما نسعى إلى تحقيقه.. فكل رؤية شعرية لا بد من أن تدل فحواها على قيمة تجعل الشعر يسير الفهم، وقد يظهر أن العنوان يندرج ضمن هذا التأويل، وربما قد يمثّل العنوان المذكور آنفاً تاريخ ميلاد الشاعر مفتاح تأويل قصيدته ومادة تحليلها ولا يعني هذا أن القصيدة لا تروي سيرته الذاتية. وقد نستطيع أن نختصر جملة من الأفكار بمقطع دلالي يمكن أن يرمز إلى حدث تاريخي لنا أن نعرفه من الوحدات اللغوية، ولم يبق حينئذ إلا تأويله بهذه المعاني التي تخترق صيرورة التاريخ، ومثال ذلك الحدث الذي سبق إن أشرنا إليه، أو ذاك الحدث الذي يتعلّق بالإله دموزي حارس بوابة السماء. والحقيقة أن الشعر بكل تأكيد حتمية تاريخية لا يمكن دحضها بمعنى من المعاني بصفتها مبادئ مطلقة، ولا توجد دلائل ضمنية تسوغ لتفسير دلالي من خارج ما تدعو إليه.

ولكي يكون في وسع الشاعر الاحتفاظ برؤية جمالية، فلا بد من أن تكون الرؤى بالضرورة أدبية تستبطن بدورها الكينونة، ويمكننا تبعاً لذلك أن نتجاوز حينئذ العبارات الاستعارية الغامضة التي تعد تراكيب سالبة لا تحمل سمة دلالية، وتلك بلا ريب نقطة ضعفها: لا يبدو الشعر متشابهاً في خصائصه لا في نظمه البلاغية ولا في تراكيبه اللغوية، وليس في وسعه أن يكون كذلك، لا يمكن أن نرى صورة شعرية واحدة من المضمار نفسه في ديوان شعري يعتمد في مضمونه على قضايا متباينة، بل سنرى صوراً منفصلة لا تنتمي إلى فئة البلاغة الصادمة، كما هو الشأن في هذا الديوان، إنه انحياز محض الى مرجع غنائي سنلاحظ خطوطه العريضة في التجليات الغنائية والصيغ الأدبية المميزة.

استعارة الأمكنة والرموز:

لا تزال الأساطير القديمة تحتفظ بقيمتها الحضارية إلى يومنا هذا، على أنّها رموز مجازية تقوم على رؤى فريدة، ويمكن تبعاً لذلك أن نستدل بها على وقائع تاريخية عميقة الجذور ندرك أثرها الجمالي حين نستثمرها بصيغة تسقطها من مغبة التكرار، نحن نعرف سلفاً أن جل الرموز التاريخية/ الأسطورية قد استهلكت على يد السياب وغيره من الشعراء العرب، يجب علينا أن نفهم أن الأسطورة قيمة فريدة تحمل جذوراً فكرية وثيقة الصلة بعصر فريد بحساسيته، وقد جاء الشعر لاحقاً ليستثمرها في مجاله التعبيري بطريقة ذكية لا تُعنى بفك الرموز، بل بصنع الدلالة في معانيها العميقة، وللمناسبة إذ لا توجد أساطير، بل يوجد فكر عمل بهذا المبدأ لإبراز عناصرها الضرورية من العالم المتخيل. يكفي الشعر اختزاله اللغة بدون اعتبار لتشظياتها البلاغية، وانطلاقاً من هذا المنظور يستثمر الشاعر الرموز في مجالها الدلالي كقرائن لإبراز الجانب الإنساني فيها، ولعله بذلك قد استطاع أن يمنحها روحاً حيّة لها بنيةٌ لغوية ولها جوهر دلالي، يبدو لنا أن الشاعر خضر حسن خلف قد اعتمد في استدلاله التعبيري على اللغة الصادمة كمقياس تركيبي/ جمالي في وصف الأحداث التاريخية الملحمية وتمثلها والتعبير عن جمالياتها متجاوزاً حدود الوظيفة التركيبية المتعلّقة بالحفاظ على الخصائص الذاتية.