أعني بشارع المدينة، الكيان الذي ينظم العلاقة بين المدينة والناس، يوصلهم الى أعمالهم ويعيدهم إلى بيوتهم بزمن محسوب ومحدد، وأعني بشارع المدينة السابلة وبحره الذي تحتله العربات، والكيفية التي ينظم بها سير البضائع الى محلات البيع آتية من مناطقها الأصلية، لتوزع على مرافق المدينة وشعابها، وفي كل الأحوال تكون الشوارع هي الأعصاب التي تشد جسم المدينة وتسهل جريان الدم في اعضائها. اعني بالشارع أيضا التنظيم وعدم الفوضى أي أن يتحسس المواطن مسؤوليته تجاه الشارع، وكنت قد وضحت ذلك في كتابي "شارع الرشيد: عين المدينة وناظم النص"،عندما يكون الشارع عينًا يرى الحياة اليومية وينظمها، وعندما تكون المدينة نصًا ينظم الشارع مفرداته، عندئذ ترتبط المدينة بحداثة الشوارع، ويرتبط ما يجري فيها بسياقات السياسة والاقتصاد والفلسفة والعلوم والنظام والتعليم والاقتصاد والزراعة والتواصل والعلاقات بين المدن.
اليوم ليس من شارع في مدننا بهوية الحداثة، وليس من مدينة تفرض شخصيتها على الشارع لتغيره، فالشارع بمفهوم الفلسفي" الشرعة والمنهج" يفرض وجوده على المدينة حتى لو كان خربا، لذلك نجد الأوساخ فيه مرفوضة أولا من قبل الشارع نفسه لأنها ليست من بنيته ولا من تكوينة، ومرفوضة من قبل مستخدمي الشارع لأنها تعطل حركة الحياة في المدينة وتتحول إلى تكلسات جامدة في شرايينها كما لو كانت المدينة جسدا لايصله دم القلب. كل ما يجري ان شارع السياسة الذي يتحكم بشارع المدينة يفرض اديولوجيته على سياق الحياة اليومية للمدينة، فكيفما يكون هوية الحكم تكون المدينة، وأوضح صورة لتردي الحكم هو ما نراه في شوارع مدننا وفي محلات السكن، وكان من أبرز مظاهر هذا السياق المشوه، هوتراكم القاذورات والفضلات والأكياس فيه، ولو أمعنت النظر فيها، تجدها تعبيرًا عن رفض الشارع الاجتماعي لسياسة الدولة، لو كانوا مؤمنين بسياسة الدولة لتولوا تنظيف محلات سكنهم وشوارعهم. من هنا ترى شكلا آخر للمعارضة، كيف يكون الناس تكون مدنهم، هذا ماقاله شكسبير في الملك لير ، وبالتالي فالشوارع صحائف تعكس ما يجري في المدينة، تقرأها ككلمات مليئة بالقذارة، كلمات تعبر عن أن السياسة المعتمدة على تراكم القذارة جزء من هويتها. نرى اين وجه السياسة واين وجه المدينة؟. ومن اول نظرة على اي شارع تستدل عبره على الطريقة التي تدار بها مؤسسات الدولة.
ليس من سبب غامض لمعرفة هذه الظاهرة، فالعاملون في الخدمات البلدية لتنظيف المناطق والشوارع يفوق عددهم عشرات المرات ماكانوا عليه قبل السقوط، ولكننا كنا نرى الشوراع نظيفة ، والخدمات العامة متوفرة، إذن اين الخلل؟ هل هو في اهمال العمل، أم في الرقابة؟ أم في عدم المحاسبة؟ كلا، كل ما يحدث ان كل الموظفين يشعرون انهم جزء من الدولة، وها أنت ترى المليشيات ومعتمدي الاحزاب في المناطق، يتحكمون بالناس ويجبرونهم على طاعتهم" سيدنا وشيخنا"، ويهملون واجباتهم تجاه الناس.، ولما كان الفساد والاهمال يتحكم برأس الدولة، ستكون الأطراف متورمة بمرض التسلط.
من يستقرئ طبيعة النظام السياسي يجد أن هذه الظاهرة ترتبط بانعدام الحس الوطني وليس بالوضع الوظيفي أو الاقتصادي، وبما ان الساسة لا يهمهم ان يكون الشارع نظيفا او وسخا ماداموا متحصنين بالمنطقة الخضراء، وتنقلهم سيارات مظللة بحماية مكثفة وبيوتهم محمية ونظيفة، فهم لايرون ألا ما هو خاص بهم، وعليه يكون الوضع العام للمدينة مستثمرا كجزء من الاهمال المتعمد لأوضاع الناس، ولفرض سياسة الانفتاح على اللا نظام، بحيث اصبحت ارصفة الشوارع دكاكين للباعة، وبحرها تقاطعات للبضائع، اما البيوت والمحلات المحيطة بالشوارع ومناطق السكن فقد التجأت لحماية نفسها اكثر من حماية صحتها، والوضع المأساوي لشارع المدينة يدلنا بوضوح ان بنية القرية هي البنية التي تتلاءم مع سياسة النهب والمحاصصة التي ترى في اي تقدم وتنظيف وثقافة واهتمام تطورا ليس في صالح مبادئها، بالرغم من ان الاسلام ينادي النظافة من الإيمان.

عرض مقالات: