يكمن النقص في فهم الفاشية في أن جميع التيارات الثقافية والسياسية في أوروبا بعد عام 1930 لم تكن تنزع لفهم الفاشية في التراكم المعقد للتناقضات التي نشأت منها، ولكن تقلصها نسبيا إلى تناقضات بسيطة. كان هذا الحال، على سبيل المثال مع الفئات البرجوازية الليبرالية؛ إذ بالنسبة لها لم تكن الفاشية نتيجة عملية تاريخية موضوعية، بل نتيجة إعاقة التطور التاريخي الطبيعي. لذلك، بحسب بينيديتو كروس، لم تكن الفاشية تعبيرا سياسيا عن أي مصالح طبقية، بل نتيجة انهيار الضمير، وكآبة المجتمع المدني وتسمم الأجواء الذي نتج من الحرب. ويلاحظ أن جميع البلدان التي شاركت في الحرب العالمية الأولى تتشارك بهذا المرض، وليس فقط إيطاليا وألمانيا. كذلك تُوصف الفاشية بأنها ظاهرة عابرة، كانت قد تزامنت مع التراجع في ضمير الحرية. هذه الميزات الثلاث - مرض أخلاقي، عالمية الظاهرة، ظاهرة عابرة – قادت إلى نتيجة واحدة: تعذر فهم الفاشية بواسطة التصنيفات التاريخية الموضوعية؛ إذ تقلص الميزة الأولى أي إمكانية لفهم الظاهرة من ناحية التحليل الطبقي. وتشير الميزة الثانية إلى عالمية الفاشية ومن ثم تقطعها عن أي سياق وطني محدد. وتؤكد الميزة الثالثة على تعذر الفهم من ناحية التصنيفات التاريخية، لأن الفاشية تشكلت على نحو عابر في سياق التطور التاريخي الأخلاقي.  بعد ذلك، تفسر الفاشية، بحسب كروس، بأنها تمثل ظهورا لنزعات شبه بيولوجية على المشهد التاريخي ناتجة من أزمة ما بعد الحرب.

يمكن أن يضخم التفسير الليبرالي هذا إلى الدرجة التي يتم عندها تقديم الفاشية على أنها تتويج للتاريخ الحديث بأكمله. وبحسب فريدريش نينيكي، على سبيل المثال، تنشأ الفاشية نتيجة انهيار التوازن الطبيعي بين الدوافع العقلانية والدوافع غير العقلانية، ويجب البحث عن جذورها في شهوة الربح والسلع المادية التي تزايدت نتيجة عصر التنوير والتصنيع الحديث. يبدو هذا المفهوم أكثر “تاريخية” من مفهوم كروس في المظهر فقط، لأنه على الرغم من أنه لم يتحدث عن الفاشية كظاهرة عابرة، فإن تعقيد التاريخ هنا يتدخل فقط كسلسلة من الظروف التي تسهل أو تعيق القوى العقلانية والقوى غير العقلانية، وهذه بطبيعة الحال ليست منتجات تاريخية لكنها سمات بشرية.  

ويحدث هذا أيضا مع تلك النزعات التي تحاول تفسير جذور الفاشية من خلال المصطلحات النفسية، مثل ما يطرحه فيلهلم رايش. نجد، بعد ذلك، أنه في جميع مشاريع التفسير، فإن نزعة تفسير الفاشية تكون من ناحية الفرد المعزول وطبيعته الخاصة؛ حيث يكسر الفرد روابط انتمائه الاجتماعي ويظهر ككتلة غير متمايزة في مواجهة أعمال الديماغوجيين.

جرى توسيع اتجاهات التفسير هذه وتنظيمها بعد الحرب في نظريات “الاستبداد”، التي تنزع لشمول الأنظمة الفاشية والنظام السوفيتي السابق تحت العنوان نفسه. إن المضمون الأيديولوجي لهذه المنهجية واضح: الفاشية نتاج عرضي للحرب الباردة والتي تنزع لاستخلاص مميزات منهجية عامة لكلا النظامين من أجل تأكيد الهوية الأساسية بين الفاشية والشيوعية. المهم في التحليل أن هذه المقاربة تنزع بأسلوب جديد لتجاهل تعقيد التناقضات المكونة للفاشية وتقليصها إلى تناقض واحد بسيط ونسبي. وقد تمثلت أحدى عواقب هذا النمط من المقاربات في الضعف النظري المتعلق بتحليل الفاشية من جانب علماء الاجتماع. ونتيجة التحليل داخل إطار هويات شكلية بحته بين أنظمة مختلفة كليا، لم يتمكن هؤلاء العلماء من فعل أكثر من تجميع التصنيفات والتصنيفات الفرعية التي هي ذات صفة وصفية بحتة ومجردة من أي أهمية نظرية.

ظهرت خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، دراسات ماركسية غنية بشأن الفاشية اتجهت لتأكيد وجود تناقضات متنوعة ومتعددة الأشكال أدت إلى ظهور الفاشية، علما أن النظرية الماركسية عادة ما تعتبر أن الرأسمالية أو الليبرالية هي منشأ الفاشية. ومن بين الأعمال هذه كتابات أنطونيو غرامشي (جمعت أعماله حول الفاشية في عام 1974 ونشرت في روما). كذلك صدر كتاب مهم لمجموعة من الكتاب الماركسيين بعنوان “الماركسيون في مواجهة الفاشية”، عام 1983 عن جامعة مانشستر، يضم 54 عملا، للفترتين ذاتهما، قام بتحريره ديفيد بيثام، وهو مترجم إلى الإنكليزية. ولكن هذه الأعمال كانت رؤى أولية بطبيعتها. وهي تخص تحليل الفاشية في أوروبا. وبعد أن وصل النضال ضد الفاشية إلى ذروته، عندما أصبحت الفاشية أكثر وأكثر عدوا يوميا في الممارسة السياسية بالنسبة إلى ملايين النشطاء، حدث شيء واحد تمثل في تراجع نوعية الأدب النظري الماركسي المتعلق بتحليل الفاشية، مع استثناء واحد ملحوظ تمثل في كتاب نيومان بهيموث، المعنون “بنية وممارسة الاشتراكية الوطنية”، الصادر في نيويورك عام 1942. وفي أواخر الثلاثينيات والأربعينيات لم يقدم شيء قابل للمقارنة مع الغنى النظري لتحليل الفترة السابقة. يعتقد إرنستو لاكلاو أن السبب في هذه الحقيقة المثيرة للدهشة يقع في الآتي: بينما قيّم الكومنترن على نحو صحيح العلاقة بين الفاشية ورأس المال الاحتكاري، فإن سياسة الجبهة الشعبية التي انطلقت في عام 1935 قادت إلى اندماج قطاعات واسعة من البرجوازية في النضال ضد الفاشية، مع أن النتيجة كانت تميل إلى تقديم الفاشية على أنها تعبير سياسي وتراجع على نحو متزايد الاهتمام بمسألة المصالح الطبقية. من الواضح، كان هناك ميل إلى التقليل من قيمة جوانب معينة، مثل الاستقلال النسبي للدولة الفاشية والتعبئة الجماهيرية التي سبقت مجيئها إلى السلطة. وجرى تقديم السمة السلطوية للفاشية على سمتها كنظام جماعي؛ وهذا من الطبيعي قد تزامن مع تجارب البلدان التي احتُلت من قبل ألمانيا النازية، والتي كانت قادرة فقط على أدراك الجانب الأول هذا. وبالتالي كان تفسير تعقد ظاهرة الفاشية قد أستُبعد وتراجع إلى تناقض أحادي موجود بين رأس المال الاحتكاري وبقية المجتمع. استمر هذا الاتجاه بعد الحرب؛ إذ أن الجبهات العريضة التي أشادت بها الأحزاب الشيوعية اطلقت على “الفاشي” السياسات المستبدة المحتملة لرأس المال الاحتكاري. علما أنطبق وصف “الفاشي” في ما بعد على أنظمة مثل المجلس العسكري الشيلي، بعد انقلاب عام 1973 الدموي، ودكتاتورية الجنرالات في اليونان عام 1974 أو نظام الشاه في إيران، والذي من الواضح لا يتوفر على شبه كبير مع نظامي هتلر وموسوليني.

في حين يقطع تفسير نيكوس بولانتزاس للفاشية مع هذا التقليد في التحليل ويحاول إعادة فتح النقاش النظري المتوقف منذ أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي؛ إذ لا يجري تقليص تفسير الفاشية من قبل بولانتزاس إلى  تناقض بسيط بل أنها على العكس تنتج من تناقضات معقدة للغاية.

لا تزال الكتابات مستمرة عالميا لدراسة الفاشية وتفسير أسباب ظهورها والتي تتمظهر أشكالها بحسب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلدان التي تظهر فيها مثل هذه النزعات خصوصا مع صعود أحزاب اليمن المتطرف في أوروبا، فمثلا عند بحثي عن الكتابات المتعلقة بالفاشية في المكتبة الوطنية في لاهاي عثرت على حوالي 700 عنوان وأغلبها كتب تعالج هذه الظاهرة ومنها الكثير مما صدر حديثا.

عرض مقالات: