تخيّل المشهد التالي: أنت تسير مبتهجاً في مدينة مليئة بالأشخاص الذين يمارسون أعمالهم، ويتاجرون بالأدوات والملابس والأحذية والكتب والأغاني والألعاب والأفلام. في البداية كل شيء يبدو طبيعياً. ثم تبدأ في ملاحظة شيء غريب. كل هذه المتاجر، بل كل مبنى، يعود إلى رجل واحد يُدعى جيف. إضافة إلى ذلك، تلاحظ أمراً آخر يربكك أكثر. الأشخاص الذين يسيرون مثلك في شوارع المدينة، يرون متاجر ومبانٍ مختلفة عن تلك التي تراها أنت... حتى في الشارع نفسه. يحدث ذلك لأن كل شيء يتم بوساطة الخوارزميات الخاصة بكل شخص.

هذا المشهد ليس مستوحى تماماً من قصص الخيال العلمي. إنه أمر يحدث في الواقع طيلة الوقت، وإن كان لا يزال حبيس الشاشات. أما جيف المذكور، فهو بالطبع جيف بيزوس، مالك شركة أمازون. يوضح يانيس فاروفاكيس، وزير المال السابق في اليونان والناشط الماركسي، أنه وفيما يبدو المشهد السابق وكأنه مجرد سوق، إلا إنه في الواقع ليس كذلك. فبيزوس هنا لا ينتج رأس المال، بل هو فقط يتقاضى الإيجار من الرأسماليين (التجّار/ المعلِنون).

ينطلق وزير المال اليوناني السابق من هذا المثل ليشرح فكرته الأثيرة، والتي أمضى العامين الأخيرين يروّج لها: لقد انتهت الرأسمالية ونحن نعيش اليوم في عصر “الإقطاع التكنولوجي”. أما الإقطاعيون الجدد فهم جيف بيزوس، وإيلون ماسك ومارك زوكربيرغ والقلّة الآخرين من مالكي عمالقة التكنولوجيا في العالم اليوم. وخلافاً لتمنيات اليسار حول العالم، يعتقد فاروفاكيس، أن الاشتراكية لم تكن ما أنهى الرأسمالية، بل إن هذه الأخيرة أنهت نفسها بنفسها وأفضت إلى “نظام أسوأ منها”.

يقول فاروفاكيس في مقدمة كتابه “الإقطاع التكنولوجي الذي قتل الرأسمالية “ الصادر في أيلول الماضي: “فرضيتي الغريبة هي أن الرأسمالية في طريقها إلى الزوال وليس فقط أنها تمر بواحدة من تحولاتها العديدة المثيرة للدهشة”. وعند هذه النقطة تحديداً يختلف عدد من المنظّرون مع طرح فاروفاكيس.

ماذا نعني بـ”الإقطاع التكنولوجي”؟

الإقطاعيون الجدد هم جيف بيزوس، وإيلون ماسك ومارك زوكربيرغ والقلّة الآخرون من مالكي عمالقة التكنولوجيا في العالم اليوم.

مثلما شهد القرن التاسع عاشر تحولاً كبيراً نقل السلطة من أصحاب الأراضي – الإقطاعيين إلى مالكي آلات السفن البخارية والشبكات الكهربائية، فتحول خلق الثروة من تراكم الريع إلى جني الأرباح، نشهد اليوم، برأي فاروفاكيس، تحولا مماثلا من جني الأرباح إلى تراكم الريع مجدداً. الفارق حاليا هو أن الأراضي التي يملكها الإقطاعيون، هي أراضٍ رقمية، نعرفها جيداً في وقتنا الحالي باسم “منصّات”.

“أينما نظرنا، نرى رأس المال، ونرى الأسواق، ونرى الرأسماليين يبلون بلاءً حسناً للغاية، ومع ذلك أعتقد أننا مررنا بالفعل بتحول إلى شيء يشبه الإقطاع ولكن نسخة متقدمة جداً منه من الناحية التكنولوجية. لقد تم استبدال الأسواق بمنصّات”، يقول فاروفاكيس.

في المجتمع الإقطاعي، كان “اللوردات” يسيطرون على الفلاحين لأنهم يمتلكون الأرض التي يعيش عليها هؤلاء ويزرعونها. مقابل امتياز العيش على هذه الأرض وزراعتها، ينتزع اللوردات الإيجارات من الفلاحين. في تلك الحقبة، مثّل البحث عن الريع شكلا رئيسيا من أشكال التبادل الاقتصادي. وكان يتميز باستخراج القيمة من دون أي مساهمة متبادلة في الإنتاجية. بالإضافة إلى السلطة والسيطرة على الفلاحين، ركز اللوردات ثروة هائلة، وكان لديهم قيود قليلة خارج الالتزامات تجاه الملك والحكومة.

أما اليوم، وفقاً لنظرية فاروفاكيس ومؤيديها، فإن شركات منصّات التكنولوجيا العملاقة تعرض خصائص مماثلة لإقطاعيات الماضي. نموذج أعمالها هو شكل من أشكال البحث عن الريع لأنها لا تقدم أي مساهمة اقتصادية أو اجتماعية منتجة للمجتمع. بالإضافة إلى ذلك، تلعب هذه الشركات دوراً متزايداً في حياتنا لأنها تسعى إلى السيطرة على نفضيلاتنا وسلوكنا وبالتالي مشترياتنا. وقد باتت تتصرف مثل الدول القومية على نطاق عالمي، كما أن بنيتها ونفوذها باتت تتجاوز حكومات الدول الفعلية.

وفقاً لفاروفاكيس، شهدت السنوات الأخيرة تحولاً تميز بأن أكبر اللاعبين التكنولوجيين أصبحوا يسمحون لنا “باستئجار” مساحة على منصاتهم عبر الإنترنت. ويقارن هذا الأمر بإقطاع الأمس، حيث يقوم المالك بتأجير أرضه لشخص ما يعيش ويعمل في منطقة خاضعة لسيطرة المالك، ويتمكن هذا الشخص بالتزامن من إدارة أعماله الخاصة، بينما يأخذ المالك جزءاً من إيراداته ويتقاضى منه الإيجار.

“لذا فإن أمازون ليست سوقاً. تبدو وكأنها سوق ولكنها أشبه بسحابة رقمية مملوكة من رجل واحد لا يعتمد تراكم ثروته على الربح ولكن على شكل من أشكال الريع. في كل مرة تشتري فيها شيئاً من أمازون، يذهب 30 إلى 40 في المائة من السعر إلى بيزوس، وليس إلى الصانع”، يقول فاروفاكيس.

لذلك برأيه، سنعود إلى النظام الذي يكون فيه الوصول إلى الأرض، هذه المرة الأرض الرقمية - وهو ما يسمّيه رأس المال السحابي (Cloud capital) – مقيَّداً وحاسماً، خارج السوق، ويجني إيجاراً رائعاً لـ”مالكي السحابة” الجدد.

ما الذي أدى إلى هذا التحول؟

حدثان محوريان حوّلا الاقتصاد العالمي وأوصلانا إلى هذه المرحلة. أولاً، خصخصة الإنترنت من قبل أمريكا وشركات التكنولوجيا الكبرى في الصين. وثانياً، استجابة الحكومات الغربية والبنوك المركزية للأزمة المالية الكبرى في عام 2008، بإطلاقها العنان لموجة عارمة من النقد.

يقول فاروفاكيس إن الحكومات الغربية والبنوك المركزية خلقت في أعقاب أزمة 2008 الكثير من الأموال، ما أفضى إلى سيولة لم تكن لدينا في تاريخ العالم والتي لم تدخل في الاستثمار بسبب انخفاض مستويات الطلب. لذا فإن الشركات التي حصلت على هذه الأموال من البنوك المركزية أعادت شراء أسهمها الخاصة ما خلق تضخم في أسعار الأصول. ويشير إلى أن “الوحيدين الذين استثمروا في حينه، هم النخب السحابية: الأشخاص الذين يمتلكون رأس المال السحابي”، أي مالكي الشركات التكنولوجية الصاعدة في ذلك الوقت.

ولأكثر من عقد من الزمان، من 2009 إلى 2022، أبقت الولايات المتحدة أسعار الفائدة منخفضة للغاية. شجع هذا على نمو نماذج الأعمال التي وعدت بتغييرات كبيرة للعالم، حتى لو لم تكن واقعية أو لم تخدم الجمهور بشكل جيد. ومن الأمثلة على ذلك اقتصاد الوظائف المؤقتة والسيارات ذاتية القيادة والعملات المشفرة والميتافيرس الذكاء الاصطناعي.

شركات منصّات التكنولوجيا العملاقة تعرض خصائص مماثلة لإقطاعيات الماضي. نموذج أعمالها هو شكل من أشكال البحث عن الريع.

خلال هذا الوقت، كان هناك القليل من التنظيم المفروض على شركات التكنولوجيا، وكان هناك اعتقاد واسع النطاق في عالم الأعمال بأن المديرين التنفيذيين يجب أن يعطوا الأولوية لزيادة أرباح المساهمين قبل كل شيء آخر، حتى لو كان ذلك يعني تجاهل عوامل مهمة أخرى مثل الديمقراطية أو الصحة العامة أو السلامة، بحسب فاروفاكيس.

اليوم، ما يدعم الاقتصاد العالمي هو استمرار المصارف المركزية بخلق الأموال، وليس الأرباح الخاصة. في الوقت ذاته، تحوّل استخراج القيمة بعيداً عن الأسواق الحقيقية، إنما إلى المنصات الرقمية، مثل فيسبوك وأمازون، التي لم تعد تعمل مثل شركات احتكار القلّة، بل مثل الإقطاعيات.

يوضح كتاب فاروفاكيس أن شركة مثل أمازون أو فيسبوك ليست وسيلة إنتاج منتجة، لكنها “وسيلة منتَجة لتعديل السلوك”. وأن “رأس المال السحابي” يمنح المالك قوة هائلة وامتيازاً لتغيير سلوك الناس من أجل إنشاء بدائل للأسواق التي نعلق فيها جميعا كمشترين وبائعين ولكن ليس داخل سوق يمكننا فيه اختيار شركائنا. “تقوم الخوارزميات بالاختيار نيابة عنا وتختار الخوارزمية بطريقة تزيد من إيجارات السحابة لأصحاب رأس المال السحابي هذا”.

ليس الأمر، بالطبع، أن القطاعات الرأسمالية التقليدية اختفت. ففي أوائل القرن التاسع عشر، ظلت العديد من العلاقات الإقطاعية سالمة من دون تغيير، لكن العلاقات الرأسمالية بدأت تهيمن. واليوم، تظل العلاقات الرأسمالية سالمة، لكن العلاقات الإقطاعية التكنولوجية بدأت تتخطاها.

“أقنان السحابة”: دون دريبر vs أليكسا

“إن ما تسميه حبّاً، هو أمر اخترعه رجال مثلي لبيع الجوارب النسائية”.

إذا كنتم قد شاهدتم سلسلة “ماد مان” التلفزيونية (2007-2015) ، فإنكم على الأرجح تعرفون الأساليب الملتوية للشخصية الرئيسية في العمل، دون دريبر، من أجل إقناع المستهلكين بشراء منتجات معينة تروج لها شركة الإعلانات الأمريكية الكبرى التي يعمل فيها.

يستعين فاروفاكيس في كتابه بشكل كبير بشخصية دريبر وحواراته في السلسلة التي تبرز حقبة ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة مع هيمنة سوق الإعلانات وازدياد النزعة الاستهلاكية بشكل غير مسبوق. يرى أن دريبر يجسّد روح البنية التكنولوجيا لذلك الطور من الرأسمالية (بعد الحرب العالمية الثانية)، حيث بدأ يظهر بشكل جليّ كيف تخلق آليات الرأسمالية رغبات وتوقعات لدى المستهلك لم تستطع في النهاية المنتجات المراد بيعها إرضاءها فعلياً.

يقول فاروفاكيس إن دريبر “استخدم حنيننا إلى الماضي وتلاعب بحزننا ليبيع لنا ألواح الشوكولاتة والبرغر الدهني وغيرها من السلع. لقد عمل على كيفية جعلنا نشتري أشياء لم نكن بحاجة إليها أو نريدها حقاً. لقد اشترى انتباهنا لتسليع أرواحنا وتلويث أجسادنا. لكن معه على الأقل كانت لدينا فرصة للقتال. كان ذكاءه مقابل ذكائنا. مع أليكسا، ليس لدينا أي فرصة: قوتها في القيادة منهجية، ساحقة، كونية”. وأليكسا هي المساعد الذكي الافتراضي الخاص بشركة أمازون (الموازي لـ”سيري” في منتجات آبل).

برأي فاروفاكيس، تقوم أليكسا، والشبكة الخوارزمية العظيمة المختبئة في السحابة خلفها، بتوجيه سلوكنا بطرق مربحة لمالكها: بعد برمجة قوة أليكسا لتصنيع رغباتنا، أو على الأقل تنظيمها، تمنح أصحابها عصا سحرية لتعديل سلوكنا - وهي قوة حلم بها كل مسوّق منذ زمن سحيق. “وهذا هو جوهر رأس المال الخوارزمي القائم على السحابة”.

خلال القرن العشرين، وحتى يومنا هذا، تلقى العمال في شركات احتكار القلة الرأسمالية الكبيرة (مثل جنرال إلكتريك أو إكسون موبيل أو جنرال موتورز) ما يقرب من 80 في المائة من دخل الشركة. حالياً، لا يجمع عمّال شركات التكنولوجيا الكبرى حتى 1 في المائة من إيرادات صاحب العمل. وذلك لأن العمل المأجور لا يؤدي سوى جزء بسيط من العمل الذي تستفيد منه شركات التكنولوجيا الكبرى.

يتساءل فاروفاكيس: “من يقوم بالجزء الأكبر من العمل؟”، ليجيب: “نحن!”. “لأول مرة في التاريخ، ينتج الجميع تقريباً مجّاناً مخزون رأس المال للشركات الكبيرة. هذا ما يعنيه تحميل الأشياء على فايسبوك أو التنقل أثناء الارتباط بخرائط غوغل”.

بدورها، تتحدث الكاتبة والباحثة الأمريكية شوشانا زوبوف، عما تسميه “الفائض السلوكي”. تقول إن “رأسمالية المراقبة” التي نعيش في ظلها حالياً تهدف إلى تتبّع حركاتنا الانتباهية إلى الحد الذي يسمح بمراقبة سلوكياتنا المستقبلية والتنبؤ بها.

ويرى فاروفاكيس أن رأس المال السحابي – أي الكمية الهائلة من القيمة التي تتنقل عبر الإنترنت بنسب ضئيلة ومجزأة – من شأنه أن يؤدي إلى ظهور طبقة حاكمة جديدة. ويوضح فاروفاكيس أن هذه الطبقة الحاكمة سيتضح أنها ثورية، “إذ سوف تستغل رأسمالها السحابي لجعل البشرية بأكملها تقريباً تعمل لصالحها، إما مجاناً أو مقابل أجر زهيد – بما في ذلك العديد من الرأسماليين”.

ويقول “جيف بيزوس، لا ينتج رأس المال. إنه يتقاضى الإيجار. وهذه ليست رأسمالية، إنها إقطاعية. ونحن؟ نحن الأقنان (القن هو الشخص الذي كان يُجبَر على العمل في حقول ملاك الأراضي، في عصر الإقطاع، مقابل الحماية والحق في العمل في الحقول المستأجرة).

نحن إذاً، “أقنان السحابة” الذين يفتقرون إلى الوعي الطبقي لدرجة أننا لا ندرك حتى أن التغريد والنشر الذي نقوم به هو في الواقع بناء قيمة في هذه الشركات، كما يكتب فاروفاكيس.

كلا، الرأسمالية لم تنتهِ (بعد)

لاقت نظرية فاروفاكيس الكثير من الذهول والاحتفاء في السنوات الثلاثة الأخيرة، ولكنها أيضاً لم تسلم من النقد. وقد تمحور بغالبيته حول الفكرة القائلة بأن إحدى السمات الرئيسية للرأسمالية هي كونها متغيرة ومتجددة وأن ما يبدو لفاروفاكيس أنه بداية نظام جديد، ليس سوى مرحلة أخرى من الرأسمالية وشكلاً آخر لها.

على سبيل المثال، يرى الباحث الأمريكي إيفجيني موروزوف أن الحديث عن انتقال إلى نظام اقتصادي جديد كلياً، هو مجرد مفهوم ضيق جداً لما تنطوي عليه الرأسمالية ودينامياتها وقواعد إعادة إنتاجها التي قد تقودنا إلى استنتاج خاطئ بأننا ندخل شيئاً مثل “الإقطاعية الجديدة”.

ويقول إن هذا الاتجاه يشوش على فهمنا للرأسمالية والاقتصاد الرقمي بدلاً من توضيح ما يجري حالياً.

ويرى موروزوف أن نظريات مثل “الرأسمالية المعرفية” تشير إلى التحول بعيداً عن العلاقات الرأسمالية التقليدية، مما يؤكد على تعقيدات تصور الرأسمالية في سياق الديناميات الاقتصادية والاجتماعية المتغيرة، وتشكّلها بأشكال جديدة – كما كانت دوماً – وليس نهايتها.

ويجادل بأن فاروفاكيس يشوّه ديناميكيات القيمة داخل الشركات ويفشل في الاعتراف بأن “رأس المال السحابي” لا يزال يعمل ضمن المنافسة في السوق، على الرغم من اعتراف موروزوف بخصائصه الفريدة.

من جهته، يرى المؤرخ الأمريكي هنري سنو أنه في حين قد تكون هناك تحولات في الأنظمة الاقتصادية، فإن الديناميات الأساسية للمنافسة في السوق تظل حاسمة. ويؤكد أن قوة الرأسماليين تأتي من قدرتهم على توليد الربح والتأثير على تصورات السوق، وليس من السيطرة الشبيهة بالإقطاعية. بالإضافة إلى ذلك، يشير إلى أنه حتى الجهود مثل المخاوف البيئية والاجتماعية والحوكمة تسترشد في النهاية بديناميكيات السوق وضرورات الربح. وهكذا، على الرغم من التغيرات في الأنظمة الاقتصادية، تظل المنافسة في السوق قوة مركزية تشكل الاقتصاد الحالي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“بي بي سي نيوز” – 2 آذار 2024

عرض مقالات: