لا نظنّها مبالغة لو قلنا: إن كل امرئ في هذه الحياة الدنيا هو، بمعنى من المعاني، مراقب لما يدور حوله من أحداث، وللأشخاص الذين يعرفهم. سيقول أحدنا إنه ليس مجرد مراقب، فهو شريك في صنع الأحداث، في صنع الحياة، فهو يعمل ويقيم المشاريع، ويدخل في علاقات في العمل، وأخرى أكثر حميمية في حياته الشخصية والعائلية.

هذا كله صحيح، ولكن صحيح أيضاً أن الإنسان حتى مع أولئك الذين يدخل معهم في علاقات ويصنع معهم الأحداث يكون مراقباً لهم، وبصورة أشمل هو مراقب للحياة كيف تسير وكيف تتحول بناسها وأحداثها، الحلو منها والمر، الجميل والقاسي.

كلما كانت خبرات الإنسان أكثر وتجاربه أوسع وأعرض، كلما كانت دائرة مراقبته أوسع وأغنى، فخبرة الإنسان تزداد بوجوده مع الآخرين، وبقدرته على معرفة الحياة وهتك أسرارها، فالحياة، كما يقول أحد كتاب الدراما، هي «أعظم مؤلف»، وهي كلما عاشها الإنسان بكل ذرّة من ذراته كلما علمته المزيد.

شهيرة مقولة جلجامش: «أنا من عاش ورأى»، ومع أن البحث المأساوي لجلجامش عن الخلود، انتهى هو الآخر مأساوياً، لكن المهم أنه عاش ما يكفيه ليرى، ويبدو صحيحاً القول: إن كثيرين من الناس مثل، جلجامش كانت لهم أحلامهم الكبيرة التي مشوا في مناكب أرض الله الواسعة بحثاً عنها، فحقّ لهم بعد ذلك القول، نحن من عشنا ورأينا.

في كتابه الجميل: «داغستان بلدي»، يعبر الشاعر رسول حمزاتوف عن حنينه لوطن مضى، كان فيه الناس يقدرون المرء لأنه عاش أطول وتسلق عدداً أكبر من الجبال.

هذا العهد لم يعد موجوداً، لكن نماذج من هؤلاء الرجال الذين رأوا مدناً وأنهاراً وبحاراً كثيرة، وعاشروا أقواماً وشعوباً شتى، وذاقوا الدنيا من عسلٍ وصابٍ كما يقال، تركوا لنا روائع الكتب وكنوز الحكمة والمعرفة.

وإذا كان كل الناس مراقبين، ولكل منهم ذاكرة وفؤاد، فإن قلة هم الذين يملكون موهبة خاصة وحساسية في التعرف على الأشياء، وفي التقاط التفاصيل المثيرة للاهتمام في الحياة وفي سلوك البشر.

هذه الموهبة هي نفسها تلك الحاسة التي نسميها «دقة الملاحظة»، وحين تقترن عند إنسان حاسة الملاحظة الدقيقة بموهبة أخرى كالقدرة على كسر القشرة الخارجية للظاهرة موضوع الملاحظة والنفاذ إلى دواخلها فإن ما يصل إليه من استنتاجات وأحكام ستكون من ذاك النوع الذي يعيش ويتجدد ويدعو للتأمل والتفكر الدائم فيه، وذلك هو سر الأدب العظيم والفن الخالد اللذين يشعرانك أنهما أبدعا ليعيشا ويعبرا الأزمنة، لا يبليان، وهذا شأن الأفكار العظيمة التي لا تتقادم ولا تشيخ، إنما تكشف، مع الزمن، عن مكامن عبقرية من وضعوها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحيفة “الخليج” – 11 شباط 2024

عرض مقالات: