قامة عراقية أخرى تترجل.. جميل نصيف يرحل لتبقى أعماله تعلم الأجيال، كما علمتنا، طريقة التفكير والتحليل والقراءة النقدية.. غيبه الموت في السبت الثاني كانون الأول في مغتربه في العاصمة البريطانية لندن.. وقد كتبت معرفا به وبمنجزه الإبداعي في مجلة "صوت الأكاديمي” 2023 التي تصدرها رابطة الأكاديميين العراقيين في المملكة المتحدة.

 شيخ جليل غاب عن منابر العراق الثقافية وقاعات جامعاته منذ ما يقارب العقدين من الزمان ..إنه الدكتور جميل نصيف التكريتي الناقد الأدبي والمفكر الذي نقل للعربية بيلينسكي ولوناتشارسكي وبيرتولد بريخت وبحث في التراجيديات الأغريقية وكتب عن المذاهب الأدبية وعن الريادة في المسرح العربي وفي النقد المقارن وهو الذي اضطلع بوضع المناهج الدراسية لكل ما تقدم من عناوين، علاوة على تأسيسه لأسلوب علمي في نهج تدريس الأدب المسرحي وتأريخ المسرح والدراما بنوعيها المأساة والملهاة وكلاسيكيتها القديمة والحديثة وتوزعت مؤلفاته ومناهجه تلك على جامعات عراقية وعربية وعلى وجه أخص كليات الآداب وأكاديميات ومعاهد الفنون المسرحية .

 تلاميذه يستذكرونه على الدوام فهو الأستاذ المتميز الذي كشف لهم  الخطوات الأولى التي تقودهم لسبر أغوار مجالات تخصصهم، رغم تراكم السنين، تلك اللحظة النادرة، لحظة تفتح العقل، واستيعاب فكرة جديدة، فعلى سبيل المثال الدكتور ناظم عودة "تلميذ أسبق" للدكتور جميل نصيف، كتب يصف علاقته بالأستاذ الذي لعب دورا أساسيا في هذه اللحظة البهية في حياته يقول: " الدكتور جميل يتحدث بجرأة شديدة عن الصراع الثوري الذي دار في حقبة ذهبية للثقافة الروسية حول مفاهيم التقدم والتحديث والثورة والواقعية النقدية وكيف مارست نقدا قاسيا للسلطة الإستبدادية وأنظمة العبودية في المجتمع الروسي، يتحدث في محاضراته عن كل ذلك في مرحلة النظام السياسي الأستبدادي في العراق في الثمانينيات".

" وبذلك تتحولُ المحاضرةُ حول الصراع بين الكلاسيكية والرومانتيكية إلى رغبةٍ دفينةٍ عند جميل نصيّف، ذي الخلفية الماركسية، للتغيير الثوريّ الشامل لتقويض البُنى المتحجّرة ".

الدكتور نصيف ولد في مدينة تكريت ويدخل هذا العام التسعين من عمره وتخرج في دار المعلمين العالية وحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها بمرتبة الشرف ومارس التدريس في المدارس الثانوية بعدها حصل على بعثة وزارة المعارف "التربية" إلى الاتحاد السوفييتي والتحق بقسم الأدب الروسي الكلاسيكي بجامعة موسكو وبعد ست سنوات حصل على الدكتوراه وعاد إلى بغداد ودرّس في كلية الفنون الجميلة قسم الفنون المسرحية ثم أعيد تنسيبه إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب لتدريس الأدب والنقد وذلك بعد ابتعاده عن الجو الأكاديمي الذي كان بالنسبة له كما وصفه : " الهواء الذي أتنفسه يوميا". ويؤكد د. نصيف في أكثر من موقع أنه لا يتناول الأدب كنتاج لغوي فقط وانما يعنيه عكس الأدب لحركة التاريخ في مجتمع من المجتمعات ويطرح فهمه لذلك قائلا إن: " هذه نقطة جوهرية في تكويني، فانتمائي إلى قسم اللغة العربية، في مطلع الخمسينيات اتضح لي أن منهج التدريس ليس فيه ما يشبع حاجة المتطلع لتوظيف الأدب توظيفا حقيقيا ومثمرا ". ثم يعقب على ذلك بأن مفهوم الأدب غريب على الذهنية العربية ففي القديم الهيمنة كانت للشعر:" في العصر الحديث حاول الجيل الأول أمثال الدكتور طه حسين والرعيل الذي عاصره، أن ينظّروا للأدب وأن يتحدثوا عن الأدب، لكن حتى في تعريفهم للأدب كان غرضهم هو التأكيد على الجانب اللغوي فذهبوا يمينا وشمالا في البحث عن أصل كلمة (أدب) من المأدبة أو من أدبني ربي فأحسن تأديبي، لكن ليس هنالك مساس لما هو جوهري في الأدب، فأقول على سبيل المثال إن طه حسين حاول أن يجدد، لكن بالنسبة لمن هذا التجديد؟ بالنسبة للأزهر أم للزيتونة وأمثالهما من المعاهد التي ورثناها عن عصور التخلف بعد سقوط بغداد، بل حتى قبله ". ويستخلص الدكتور جميل من دراساته: "إن طه حسين قد قسم الأدب إلى وصفي وإنشائي، الأول هو تاريخ الأدب والنقد الأدبي والثاني هو شعر وقصة ودراما ".

أكد الدكتور التكريتي على أن مناهج الأدب في الجامعات كانت حصة الشعر فيها هي المهيمنة وذكر أنه خلال أربع سنوات هي فترة دراسته في خمسينيات القرن الماضي في دار المعلمين العالية لم يكن شيء اسمه قصة ولا شيء اسمه دراما ويصح هذا أيضا على الأدب المقارن والمذاهب الأدبية وعلم الجمال.. ووقتها كانت المحاضرات تنصب على علم البلاغة وكانوا يتناولون تراجم الشعراء أقرب منها إلى تحليل شعرهم وشاعريتهم.

الأستاذ الدكتور جميل نصيف جاسم التكريتي، هو علم من الأعلام المتميزين في اختصاصه في النقد الأدبي، ونظرية الأدب، والأدب المقارن، والمذاهب الأدبية، والأدب المسرحي الإغريقي، ومترجم حاذق من الروسية إلى العربية، ومقوم العروض المسرحية، وتقويم الأعمال الروائية وغيرها من الأعمال الرصينة.

 أما سيرته الذاتية 

موجزها بالسطور التالية:

* الاسم واللقب: جميل نصيف التكريتي.

*مسقط الرأس: مدينة تكريت " مركز محافظة صلاح الدين حاليا" عام 1929. 

*أنهى دراسته الابتدائية والثانوية في تكريت.

*التحق عام 1950 بدار المعلمين العالية.

*في عام 1954 حصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها بدرجة جيد جدا قسم الشرف.

 *عمل مدرسا على الملاك الثانوي ثم معاونا لمدير معارف بغداد خلال الفترة 1958—1960.

*تعاقد مع وزارة المعارف العراقية للدراسة ونيل شهادة الدكتوراه في النقد من الاتحاد السوفييتي.

*التحق بقسم الأدب الروسي الكلاسيكي – كلية الاداب - جامعة موسكو. استغرقت دراسته هناك الفترة من خريف 1960 إلى ربيع1967.

* في اواخر العام 1967 أعيد إلى الخدمة للتدريس في جامعة بغداد -كلية الفنون الجميلة: قسم الفنون المسرحية.

*في بداية عام 1971أعيد تنسيبه إلى قسم اللغة العربية: كلية الآداب لتدريس الأدب والنقد وإلى أن تقاعد في مطلع عام 2008.

* واصل التدريس الجامعي بمرحلتيه الأولية والعليا إلى جانب الإشراف على الرسائل الجامعية ماجستير ودكتوراه ومناقشتها ولم يقتصر ذلك على قسم اللغة العربية في كلية الآداب بل شمل أقساما علمية أخرى في كليات تابعة لجامعة بغداد وغيرها من الجامعات العراقية.

*أتيحت له فرصة ممارسة نفس النشاط العلمي معارا إلى جامعة الجزائر 1973—1976 لتدريس مادة نظرية الأدب، شمل ذلك: جامعة قسطنطينة لأحد الفصول الدراسية، وللفترة من 1996إلى1999 عن طريق التعاقد مع جامعة السابع من إبريل في ليبيا.

 *أنجز عددا من البحوث المنشورة في المجلات الأكاديمية والأدبية-الثقافية الرصينة وحصل بفضلها على الترقيات العلمية: أستاذ مساعد ثم درجة الأستاذية، لا يتسع المجال لذكرها هنا بالتفصيل.

*له عدد من الكتب، ثلاثة منها معتمدة كتبا مساعدة للمنهج: المذاهب الأدبية والأدب المقارن.. تم تأليف كليهما بتكليف من لجنة المناهج التابعة لوزارة التعليم العالي. اما الكتاب الثالث فقد تم تأليفه بناء على تكليف من وزارة التربية وذلك على وفق منهج تدريس الأدب المسرحي الإغريقي في معهد الفنون الجميلة.

 * في ميدان الترجمة عن اللغة الروسية قام بترجمة ونشر العديد من البحوث والكتب التي حظيت باهتمام الأوساط الأكاديمية والثقافية في عموم الوطن العربي، الأمر الذي تجسد في إعادة نشر بعضها: كتابان في بيروت والثالث في الرباط. فضلا عما أعيد نشره في العراق.

* ...في مجال النشاط الثقافي كانت له مساهمات.. منها العمل مع الآخرين على إعادة الحياة إلى اتحاد الأدباء والكتاب في العراق أواخر ستينيات القرن الماضي فكان عضوا في الهيئة الإدارية الجديدة مسؤولا عن العلاقات الخارجية إلى جانب مساهماته في اللجان الاخرى كاللجنة الثقافية واللجنة الفنية والآماسي الثقافية محاضرا ومناقشا.

*كما كان أحد المشاركين في تأسيس وقيام رابطة المقارنين العرب أثناء مشاركته ممثلا لجامعة بغداد في مؤتمر الأدب المقارن العربي الأول المنعقد في رحاب جامعة عنابة -الجزائر عام 1984، وتم انتخابه أمينا عاما مساعدا في الهيئة الادارية للرابطة وشارك في مؤتمراتها التي عقدت في جامعة دمشق عام 1986 وفي جامعة مراكش عام 1989.

*أختير عضوا في لجنة الترجمة والنشرالتابعة لمديرية الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة والإعلام في العراق في سبعينيات القرن الماضي ثم عضوا في الهيئة الإستشارية لدار الشؤون الثقافية خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي.. - خلال العقود الثلاثة الأخيرة كان عضوا في جميع اللجان المكلفة سنويا بتقويم العروض المسرحية ومنح الجوائز للفائزين.. كذلك كان عضوا في اللجان التي أشرفت على أعمال المهرجانات المسرحية على المستوى المحلي او العربي وتقييمها ومنح جوائزها.

* وعند تشكيل مركز البحوث الإستراتيجية في مطلع القرن الحالي وقع الاختيار عليه للإشراف على قسم الدراسات الأدبية فيه، وفي الفترة نفسها أنيطت به مهمة رئاسة تقييم الأعمال الروائية العراقية المتقدمة للفوز بجائزة أحسن رواية صادرة في العام السابق.

*كما أختير لعضوية اللجنة التي أنيط بها مهمة تقييم النتاج الروائي الجديد لمكافأته ونشره من قبل دار الشؤون الثقافية.

* حاول قسم الدراسات الأدبية في مركز البحوث الإستراتيجية ممارسة نشاطه فعقد خلال الفترة القصيرة من عمره عدة حلقات دراسية كما أقام، بالتعاون مع وزارة الثقافة، ندوة حول الرواية العربية المعاصرة شارك فيها عدد من المختصين العرب. وهذه النشاطات توقفت للأسف الشديد، بعد الأحداث الدراماتيكية التي تعرض لها العراق مؤخرا.

* في 28/06/2019أستضاف المقهى الثقافي العراقي في لندن د. التكريتي والمقيم في العاصمة البريطانية، فقدم، وهو الشيخ التسعيني، محاضرة متميزة عنوانها " الأدب ومفاهيمه والمناهج التدريسية له في الجامعات العربية ".

أما الكتب التي ألفها، والتي كانت إضافة أغنت المكتبة العربية، فهي:

- قراءة وتأملات في المسرح الإغريقي ،1985، بغداد، دار الحرية للطباعة،378 صفحة.

- المذاهب الأدبية، بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1990، عدد الصفحات 388.

- المسرح العربي: ريادة وتأسيس، بغداد، دار الشؤون الثقافية، 2002، عدد الصفحات 209.

- الأدب المقارن :2005، بغداد، دار الشؤون الثقافية على حساب جامعة بغداد، 400 صفحة.

وللناقد والأكاديمي الدكتور جميل نصيف باستثناء المؤلفات المذكورة أعلاه، كان له نشاط في مجال الترجمة نذكر منها:

- موسوعة نظرية الأدب (ترجمة من المجلد الاول والمجلد الثاني من إصدار أكاديمية العلوم السوفييتية)، 1993، بغداد، دار الشؤون الثقافية، 602 صفحة.

- نظرية المسرح الملحمي، برتولد بريخت، بغداد، دار الحرية، 1973، عدد الصفحات 445.

- في سبيل الواقعية: بيلينسكي ونشيرنيفسكي لـ: لافريتسكي ودبروليوبوف، بغداد،1974، وزارة الإعلام. - الكساندر سرغييفتش بوشكين، لمؤلفه س. م. بتروف1981، بغداد، دار الرشيد، عدد الصفحات 303.

- شعرية ديستويفسكي: ميخائيل باختين، بغداد 1986، أعيد طبعه في نفس العام في الرباط.

عرض مقالات: