باريس: مزهر بن مدلول 18 / 9 / 2018

في كل زاوية من باريس هناك غرسة حضارية لا بدّ ان تتوقف عندها وتتأملها. مدينة تضحك منذ شارل موليير صانع الكوميديا الاول والملقب بـ(أبو المسرح الفكاهي) وحتى ألان ديلون نجم الاثارة في الشاشة السينمائية الفرنسية. مدينة النور كما يطلقون عليها، نسمات الحداثة فيها تداعب ظلال تاريخها الغزير بالانجازات. وهي عاصمة الادب والفن والفلسفة والاعلان العالمي لحقوق الانسان.

هي التي كانت وما زالت معبرا للمبدعيين وعوالمهم السرية الفاتنة، وهي عاصمة موطن اديب الثورة الفرنسية التي غيرت مسار التاريخ الحديث وصاحب الرسالة الانسانية (البؤساء) الرومانسي فيكتور هيجو، وهي ملهمة بودليير الذي سبق عصره (واراد من ازهار الشر ان يُخرج الجمال من الشر)، وإميل زولا الصوت الاعلى في الصحافة الفرنسية في وجه العنصرية، وفلوبير صاحب المخيلة الملونة الذي كتب (مدام بوفاري) وسلط الضوء على الفوارق الطبقية والنفاق الاجتماعي.

مدينة المعارض والصالونات التي تحولت الى محك حقيقي للنشاط الابداعي والاصالة الفنية، وهي مدينة الجن والملائكة كما وصفها طه حسين. من فوق احدى تلالها حيث الهواء النقي، وبالرغم من مرض السل المزمن الذي يعاني منه، كتب فيلسوف العبث البيركامي هازئا ومتمردا رائعته الشهيرة (الغريب)، ومن مقاهيها المضيئة والمزدحمة بالناس تأمل سارتر فكره الوجودي وكتب (الغثيان) التي حسب كونديرا (بأنها تكشف عن عوالم لا يمكن للعلوم والفلسفات اكتشافها).

هذه هي المرة الثالثة التي ازور فيها عاصمة الموضة والمتاحف، وفي كل مرة اكتشف شيئا جديدا من أناقتها، مدينة قادرة على تجديد حياتها بأستمرار، اشعر بذلك وانا اقف في وسط المهرجان السنوي لجريدة الحزب الشيوعي الفرنسي (اللومانتيه) الذي التأم للايام 14/ 15/ 16 من ايلول 2018، هذا المهرجان لم يكن فرجة وحسب، وانما دعوة الى التفكير وموقف من العالم ومتعة ذهنية، يؤمه الالاف من البشر جلهم من الشباب والشابات الذين قدموا من شتى بقاع الارض، وتجمعوا خلف راية واحدة هي راية (الانسان اولا).

يمتلأ مكان المهرجان الذي يقع في احدى ضواحي باريس بالشواهد والرموز التاريخية والسياسية والكفاحية، ابتداءا من الازياء التي تعكس حكايات الامراء والاباطرة والعوائل الارستقراطية، كما تعكس تراث وتقاليد وثقافات شعوب متعددة، ومرورا بلغة الانسان الاول (الموسيقى) التي تكسر الحواجز وتزرع قيم الثقافة والسلام بين الشعوب، وليس انتهاءا بالوجوه التي اهتمت بالاجابة عن سؤال الهوية والمصير وحرية وكرامة الانسان، والتي كان ابرزها هو وجه ذلك الرجل الفدائي الذي مات وبقي حيا في الوجدان!، انه تشي جيفارا التي نُقشت صورته على ملابس الزوار وعلى الواجهات لتجعل من المهرجان كما لو انه مسيرة عظيمة للاحتجاج على الظلم الذي يسود العالم.

في وسط الخيام المنتشرة على مساحة واسعة، كانت خيمة العراقيين، خيمة جريدة حزبنا الشيوعي العراقي (طريق الشعب) التي نحتفل اليوم بالذكرى الـ 50 لمشاركتها في هذا المهرجان، وكالعادة تزينت الخيمة باللوحات والصور والشعارات، كما تميزت بحضور مثقفين واعلاميين وفنانين اقاموا عددا من الندوات الثقافية والسياسية والفنية وكان ابرزها الندوة التي قدمها رئيس اتحاد الادباء الاستاذ ناجح المعموري عن الشهيد كامل شياع بمناسبة الذكرى العاشرة لاستشهاده.

احيت الاحتفال بالاضافة الى عدد من المطربين، فرقة بابل القادمة من كوبنهاكن بقيادة المايسترو سعد الاعظمي، وكان ابرز المؤدين بينهم هو الفنان العراقي برهان الذي كانت اغانيه ملاذا للارواح الغريبة وبلسما للجراحات الكثيرة، حين مسك المايكرفون اجتاحتني موجة من الخواطر، اخذتني الى الشاطئ الجميل حيث تقف شهرزاد في حضرة شهريار لتروي حكايتها: (بلغني ايها الملك السعيد...). خطر لي الشاعر عقيل علي الذي امضى حياته في الغرف الباردة والحانات الكئيبة، والشاعر الحزين جبار الغزي الذي شبع من الحياة عوزا وحرمانا وكتب (غريبة الروح.. لا طيفك يمر بيها.. ولا ديرة التلفيها)،  لقد ادّى برهان وبرع، وغنّى وسحر، وسافر بنا مسافات بعيدة، واعادنا الى تراثنا الموسيقي والغنائي حيث الكلمة الصادقة واللحن الاخّاذ. اخذنا الى الفرات ليغرف لنا ونشرب.. (للناصرية.. تعطش واشربك ماي..)،  فتفجّرَ الحنين، وانطلقت الاهازيج وعبقت رائحة الالفة، ففي تلك المدينة السومرية ولد حزبنا الشيوعي العراقي الذي علمنا كيف نشعر بألم المسحوقين والمظلومين والذين يعيشون في بيوت الصفيح، كما تعلمنا منه الفرح والأمل واغاني الحياة.

واختتمت الخيمة فعاليتها بتكريم عدد من الرفاق والاصدقاء الذين واكبوا خيمة طريق الشعب في مهرجان اللومانتيه لعدة سنوات، فارتفعت راية العراق والحزب وصدحت الحناجر بالاغاني ( واليمشي بدربنة شيشوف... )، و( عمي يابو جاكوج...).