ناكة وعكرها البين واعمى بصرها

تمشي بتوالي النوك وآنه بأثرها

  هناك مفردات، أظن بعضها مسموعا حد الملل، لتكرارها على مسامع العراقيين، منها على سبيل المثال لا الحصر: الضيم، العوز، الفقر، الفاقة، كذلك القمع والقهر وغمط الحقوق، والنفي والتشريد والسجن والموت.

  ومافتئ العراقيون يرتّقون فتقا هنا أو شقا هناك، لعل عراقهم يستقر ويهنأون بخيراته التي بددها سلاطين وحكام، كانت لهم صولات وجولات في سدة حكمهم. فمنذ عام 2003 حتى لحظة كتابة هذا المقال، اتخذت المفردات آنفة الذكر حيزا كبيرا في يوميات العراقيين، وزاد عليها ذاك العام مفردة السقوط، وقطعا كل سقوط يعقبه واحد من اثنين، إما نهوض او تداعيات في السقوط. والذي حدث آنذاك ومازال يحدث، لايمكن إخضاع تسميته الى قاعدة او قالب واحد يصلح لكل التفسيرات، إذ كلٌ يفسره حسب ما يظنه واقعا، او نزولا على ما يتمناه، او طبقا لما تملي عليه مصلحته، لذا فمنهم من يشيد بالانجازات التي حصلت رغم ضآلتها، ومنهم من يتذمر من سوء الحال وبؤس المآل، ومنهم من لاحول ولاقوة ولارأي لديه، بعد أن تسلل القنوط إلى داخله.

  ومن المفردات المستجدة الأخرى، مفردة (التغيير). والتغيير يأخذ من المعاني الكثير، ومن الصور أكثر، والعجيب الغريب في ساسة العراق الجدد أنهم مشغولون بالتغيير، ويحتكرون ماهيته، كما يقدرونه تقديرا على مقاساتهم وأهوائهم وأمزجتهم، في حين أن المواطن قبلهم بحاجة ماسة إلى التغيير، لكنه يهيم في وادِ، وهم يعمهون في غيهم في وادِ غير ذي ضمير ووطنية وإنسانية. فيغمض لهم جفن ويهدأ لهم بال ويرتاح لهم ضمير وتقر لهم عين، وهم على علم بملايين الأفواه الفاغرة التي قلما تكتمل لديها النعم الثلاث في يوم واحد، وآن واحد وآنية واحدة، تلك النعم هي (الريوگ والغدا والعشا).

  وإنه لمن المؤكد ان أصحاب الأمر والنهي والبت والحكم القابعين تحت قبب مجالسنا الثلاث، على دراية بأعداد المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر بألف درجة، ولم تصلهم رائحة أمل حتى لو حصل ألف تغيير. فالتغيير في نظر المواطن هو النقلة النوعية، في جوانب حياته التي مل من تردّي أوضاعها يوما بعد آخر وعاما بعد عام، وأتعبه ضنك العيش، وهو في بلد يفيض نهراه خيرًا وعطاءً، وأرضه مدرارة سطحا وجوفا بما تحلم فيه بلدان العالم، ومع كل هذا لم يلمس أي تغيير من الذي يسمعه منذ عام 2003. إذ يصطبح بالقلق ذاته، ويمسي بخيبة الأمل عينها، وهذا دأبه في حياته منذ الربع الأخير من القرن المنصرم.

  وبدخول الديمقراطية والانفتاح في ذاك العام (المفترج) حل التغيير بكل ما أوتي من قوة، ولكن، باتجاه لم يكن بالحسبان، إذ شمل التغيير أشياء غير مرغوب بها، حيث طفت على السطح شخوص لاتنتمي إلى أعراف البلد وقيمه ومثله، ومازاد الطين بلة أن زمام الأمور ودفة السفينة بأيديهم، وفوق هذا التغيير وذاك، ما تطرحه لنا أشجار مجالس الدولة التشريعية والتنفيذية والرئاسية من جديد الثمار المنبوذة، إذ لم نعهد من كبير أو صغير دخل تحت قبب هذه المجالس إلا تغيير السير، وجعله عكس ما يشتهي المواطن وضد تياره ومصلحته، في حين أنه لايطالب بغير حقوقه.

  فهل هناك في الأفق مايطمئن المواطن بالوجه المشرق لمفردة التغيير؟ أم ان التغيير في العراق يعني النكوص والتقهقر والخسارة والضياع، في زمن يسعى سكان المعمورة نحو حياة الرفاه عدوا وجريا وقفزا وتحليقا!

عرض مقالات: