لا يمكن الحديث عن الحركة النسائية العراقية دون الحديث عن الدكتورة نزيهة الدليمي. فقد كانت من اولى الناشطات والمؤسسات لحركة نسائية فاعلة ترتبط وثيقا بنضال شعبنا وقواه الوطنية من أجل التحرر من الاستعمار ومن ثم من أجل بناء عراق تقدمي ديمقراطي، تتحقق فيه العدالة والمساواة وتنال فيه المرأة كامل حقوقها.

وانه من دواعي فخري واعتزازي انني تعرفت عليها وانا صغيرة السن، 16 سنة، وتتلمذت على يديها وتعلمت منها أروع دروس التضحية والإيثار وكيفية التعامل مع الجماهير خاصة الكادحة منها.

لم يكن النشاط النسوي متبلورا بعد لحين الاربعينيات والخمسينيات حيث ازدهر النشاط النسوي عندما تزايد خطر الفاشية والنازية. فبادرت المرأة العراقية إلى تأسيس اللجنة النسوية لمكافحة الفاشية والنازية عام 1942 وكانت الدكتورة نزيهة من بين المساهمات في تكوين هذه اللجنة. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط الفاشية والنازية تغير اسم اللجنة إلى، رابطة نساء العراق وعقدت مؤتمرها الاول بحضور 400 امرأة.

لكن النقلة النوعية التي حدثت في مسار الحركة النسائية في العراق كانت بعد المشاركة الفاعلة والكبيرة للنساء في وثبة كانون عام 1948. وكانت هذه هي الخطوة العملاقة التي ربطت الحركة النسائية في العراق بالحركة الوطنية جنبا إلى جنب مع باقي قطاعات الشعب المضطهدة، المقهورة، والمهمشة. وتعمد هذا الارتباط بالتضحيات التي قدمتها المرأة العراقية والتي أسفرت عن تأسيس: رابطة الدفاع عن حقوق المرأة والطفل في عام 10 اذار 1952. وكان من بين شعاراتها المهمة هو: الدفاع عن السلم العالمي، لأن الرابطة ايقنت ومنذ البداية بان حقوق المرأة والطفل لا يمكن تحقيقها في ظل الحروب والعنف. وكان دور الدكتورة نزيهة فاعلا واساسيا في هذا التشكيل، بالطبع مع زميلاتها الرائدات الأخريات امثال: مبجل بابان، سافرة جميل وبشرى برتو وروز خدوري. ومن الجدير بالذكر هو ان الدكتورة نزيهة الدليمي ومع زميلاتها الاخريات تقدمن بطلب اجازة الرابطة إلى الحكومة الملكية بعد وثبة كانون عام 1948 الا ان السلطات المعنية رفضت الطلب آنذاك ولهذا تأسست الرابطة عام 1952 وعملت بشكل سري لحين قيام ثورة 14 تموز المجيدة.

وحرصت الرابطة ومنذ اوائل تأسيسها على خلق صلة وثيقة بالنساء بمختلف شرائحهن وانتماءاتهن خاصة الفئات الكادحة والفقيرة في المجتمع. واصبحت عيادتها في الشواكة، كونها طبيبة، مقرا للقاء الرابطيات لتكون وايضا للنساء الأخريات، حيث تحولت عيادتها إلى ملاذ للنساء اللواتي كن بحاجة للمساعدة الطبية بأسعار رمزية وبالمجان في كثير من الأحيان. اما نحن اللواتي انخرطن في العمل الرابطي فكانت د. نزيهة توجهنا وترسم لنا طريق العمل دون ان تحد من ابداعاتنا. كانت ترسم لنا الطريق وتعطينا الخطوط العامة وتدعنا ننطلق إلى الجماهير النسائية حيث تكون، في مناطق سكناها وعملها. كنا غالبا نستغل التثقيف بضرورة تطعيم الأطفال، اهمية النظافة، المناسبات الدينية والاجتماعية مثلا (شاي العباس) والاهم تبني مشاكل هؤلاء النسوة العامة والشخصية منها للتعريف برابطة المرأة واهدافها وكسب العضوات الجديدات لها.  كانت الدكتورة تنصحنا دائما بان نهتم بمشاكل الجماهير النسوية والعمل على حلها بالطرق المتاحة. فكنا نذهب مع النسوة إلى الجهات الرسمية المعنية للمطالبة بتحسين ظروف حياتهم بمختلف الاتجاهات لكننا نترك لهن المجال للتعبير عن مطالبهن ومطالب عائلاتهن، وبهذا كنا نجعل هؤلاء النسوة يشعرهن بأهمية دورهن في المجتمع وبأهمية دور الرابطة.

اضافة إلى الزيارات التي كنا نقوم بها إلى البيوت، المستشفيات والأحياء الشعبية، كنا نزور عوائل السجناء السياسيين ونقدم لهم ما نستطيع، واهم شيء كنا نطمح اليه هو ابقاء هذه العوائل مرتبطة بأبنائها وتدافع عنهم. كنا وفي كثير من الأحيان نذهب معهم لزيارة ذويهم في السجون. وقد تبنت الرابطة العديد من حملات المطالبة بتحسين ظروفهم وإطلاق سراحهم، شكلت لجنة مع امهات وزوجات السجناء للدفاع عن السجناء السياسيين بقيادة العناصر النشطة من الرابطيات لزيارة عدد من الصحف اليومية مثل: البلاد، الأهالي، الرأي العام واليقظة للتعجيل بإطلاق سراح هؤلاء السجناء وايضا الاتصال بالمحامين وتشجيعهم للقيام بالدفاع عن السجناء السياسيين.

ان هذه النشاطات مضافا اليها الاجتماعات التي كنا نعقدها تحت واجهات مختلفة هي التي ساهمت بتوسيع القاعدة الجماهيرية للرابطة وجعلت منها منظمة تحظى بالاحترام والدعم الجماهيريين.

لقد أدركت د. نزيهة بحسها ووعيها الطبقي الأهمية القصوى لزج النساء من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية في العمل الرابطي الجماهيري بهدف تمكين النساء من تقرير مصائرهن وشحذ الوعي الطبقي لديهن ليساهمن في النضال من أجل التحرر وتحقيق المجتمع السعيد. وايضا سعت جاهدة للخروج إلى العالم العربي والعالم. فقد نجحت في ضمان عضوية الرابطة في الاتحاد النسائي العالمي عام 1953 فصار للرابطة ممثلة دائمة فيه. وحضرت الدكتورة مؤتمر ا.ن.د.ع الاول وساهمت الرابطة في مؤتمره الذي عقد في لوزان بمناسبة مرور 10 سنوات على ضرب ناغازاكي بالقنبلة الذرية، وتألف الوفد من خمس عضوات من الرابطة في هذا المؤتمر، وكن: طالبة، معلمة، ربة بيت، عاملة وموظفة حسب توجيهات الدكتورة بضرورة مشاركة كل اطياف الشعب.

قمنا بالتحشيد والمشاركة في انتفاضة تشرين عام 1952 وايضا ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 اضافة إلى قيادة الكثير من المطالبات بتحسين ظروف حياة البسطاء والمعدمين من أبناء شعبنا. وعندما حدث فيضان دجلة زجت الرابطة وبتوجيه من قيادتها الرابطيات للعمل والتعاون مع الاتحاد النسائي العراقي بقيادة اسيا وهبي في توزيع المعونات على ضحايا الفيضان، الامر الذي عزز صلة الرابطة بمنطقتي الشاكرية و العاصمة.

عقدت الرابطة وتحت قيادة الدكتورة نزيهة اول كونفرنس لها عام 1954 في بساتين الراشدية، حيث كانت هي قد اعدت تقسيما للعمل على شكل لجان تنظيمية حسب المناطق. وحينها تقرر القيام بتعليم الرابطيات الاميات، حيث قامت الرابطيات المتعلمات بتعليم زميلاتهن اولا ثم الأخريات.

ولم تعقد الرابطة مؤتمرها الأول الا بعد ثورة 14 تموز وذلك في عام 1959 حيث بلغ عدد العضوات 20 ألف وفي عام 1960 42 ألف. وتم تغيير اسمها من رابطة الدفاع عن حقوق المرأة إلى رابطة المرأة العراقية بناء على ملاحظة من الزعيم عبد الكريم قاسم وجهها للدكتورة نزيهة مفادها: باننا نناضل من أجل حقوق كل ابناء الشعب العراقي.

وقد تشكل فريق عمل من الدكتورة وعدد من القانونيات والمتخصصات من الرابطيات وهو الذي عمل جاهدا من أجل وضع قانون احوال شخصية تقدمي، يؤمن الكثير من الحقوق للمرأة العراقية. وصار هذا القانون منارا لكل المنظمات النسائية في البلدان العربية تقتدي به وتحاكيه في قوانينها. وقد تم اختيارها كوزيرة اواخر عام 1959 وبهذا كانت هي اول وزيرة امرأة في بلدان الشرق الاوسط.

لقد دفعت الدكتورة ثمنا باهظا لنضالها الدؤوب الأمر الذي ادى إلى تركها وطنها حيث غادرتنا وهي في ارض الغربة.

ان الغربة لم تفل من عزيمتها ولم تقلل من نشاطاتها في العمل مع النساء وتوجيه نشاطهن حتى عن بعد. ولقد تركت بصماتها واضحة على طبيعة وشكل عملنا الرابطي إلى اليوم. فنحن مازلنا نسير على ذات الطريق الذي عبدته لنا في الربط بين العمل الجماهيري والنضال الوطني.

كانت الدكتورة نزيهة الدليمي وما زالت المشعل الذي تتجمع حوله النساء التواقات إلى بناء مجتمع متقدم، ديمقراطي، خال من الاستغلال والتبعية.

ونحن نحيي الذكرى المئوية لميلادها نعاهدها على المضي في الطريق الذي خطته مع زميلاتها لنا، خاصة وان بلدنا قد تم غزوه واحتلاله من أعتى ويجري نهب خيراته المادية وتعطيل خيراته البشرية. كما تجري محاولات مستميتة من أجل الغاء منجز المرأة العراقية الأهم، قانون الأحوال الشخصية. لكن وعي النساء وحرصهن على منجزاتهن يقف سدا منيعا امام هذه المحاولات.

اننا جميعا نواجه خطرا كبيرا يحتم علينا لم صفوفنا وتوحيد جهودنا من أجل ان نبقى دائما الرافد الأقوى من روافد ثورة شعبنا في سبيل بناء العراق الديمقراطي الحقيقي الذي تحترم فيه حقوق كل الناس.

الذكر الطيب للدكتورة نزيهة الدليمي، رائدة الحركة النسائية في العراق!

عرض مقالات: