ليس في المجتمع العراقي وحده، وأنما في كل المجتمعات تقريبا، كانت المدينة تأريخيا رمزا للإنفتاح وقبول الجديد والبحث عنه وإبتكاره وتطويره، وفي المقابل كان الريف يلعب على الدوام دور قلعة الدفاع عن الموروث وصيانته من خطر الضياع، وأعتباره معطى سرمديا ثابتا يقترب من القدسية، سواء كان هذا الموروث معتقدات دينية ومذهبية، أو عادات وتقاليد وأنماط علاقات قبائلية.
وفي المجتمع العراقي حرص كلا الجانبين على أداء دوره التقليدي، يشهد على ذلك، أن المدن العراقية كالبصرة والكوفة وواسط، والعاصمة بغداد على نحو خاص، عاشت في مراحل إزدهارالدولة العباسية، وعممت على محتلف أرجاء البلاد، تجديدا متواصلا، شمل كل مجالات الحياة ومناحي الثقافة والفكر، بما في ذلك الفكر الديني، وبرزت تيارات دينية مثل المعتزلة، كان يمكن لها أن تشكل قاعدة لحركة تطور دائمة للفكر الديني، بما يقلص الهوة بينه وبين ما يعيشه المجتمع من تطورات فكرية وعلمية وثقافية.
لكن يمكن القول أنه ومنذ بدء تراجع تطور الدولة العباسية، وانتقالها الى طور الإنحطاط . ضعف دور المدينة الحضاري ومالت الغلبة على الدوام لصالح الريف. فمع أنتقال الخلافة الى المتوكل الذي تجمع المصادر التأريخية على أنه كان أميا أو شبه أمي، وبدء مرحلة الأنحطاط على يديه تراجعت مكانة المدينة، و كفت عن أداء دورها التجديدي، ثم جاء إنهيار الدولة العسكري والسياسي، وتنامي نفوذ الجند، وتحول الخليفة الى مجرد واجهة وألعوبة يمكن أستبدالها في أي وقت بواجهة أخرى، ليكتمل انحطاط دور المدينة، الذي أفضى في النهاية إلى انهيار الدولة وسقوطها في قبضة الأحتلال المغولي ـ التتري. وما تبعه من أحتلالات فارسية وعثمانية، تخللتها فترة حكم مملوكي لا يعرف عنه العراقيون البسطاء في عصرنا الراهن شيئأ، حيث يسود الوهم بأن المماليك لم يحكموا سوى في مصر.
في مراحل الانحطاط المديدة التي أعقبت إنهيار الدولة العباسية ظلت المدينة العراقية، وعلى نحو خاص قلبها بغداد، تودع كارثة لتستقبل نكبة. وخلال القرون السابع عشر، الثامن عشر والتاسع عشر كان توالي الكوارث والنكبات المسجلة تأريخيا في بغداد على النحو التالي *:
1621 مجاعة.
1632 أحتلال فارسي جرى فيه قتل آلاف السنة، وبيع بعض منهم عبيدا.
1633 وباء.
1635 فيضان,
1638 احتلال تركي يرتكب مجرة تطال 30 الفا من الشيعة، ومن الفرس الذين احتلوا بغداد.
1656 فيضان.
1689 مجاعة ووباء,
1733 حصار فارسي لبغداد (( أكثر من 100 الف ماتوا جوعا )) وبوباء الطاعون.
1777 ــ 1778 حرب أهلية في بغداد.
1786 فيضان، محصول زراعي فاشل، مجاعة وأضطرابات.
1802 وباء، فناء معظم سكان العراق.
1822 وباء، فيضان.
1831 وباء، فيضان، حصار ، مجاعة، انخفاض عدد سكان بغداد من 80 ألف الى 27 ألفا فقط.
1877 ــ 1878 وباء، مجاعة.
1892 فيضان.
1899 فيضان.

وفي كل نكبة وكارثة من هذه النكبات والكوارث المتصلة، كان الريف والبادية هما من يعوض المدينة ديموغرافيا، ومع كل تعويض تتآكل قيم المدينة وحيويتها الفكرية وجنوحها الى التطور والتجديد، وتترسخ فيها قيم الريف والبادية المحافظة والمناهضة للتطور.
واستمر هذا المنحى حتى الأحتلال البريطاني للبصرة عام 1914، وبغداد في 1917، والذي جوبه بثورة شعبية عام 1920، أفضت الى إعادة تشكيل العراق في دولة تحت الإنتداب البريطاني. ورغم المشاركة المدينية في الثورة إلا أن الثقل الأساسي فيها كان لقبائل الريف، ورجال الدين، أمر أدى الى حصول شيوخ العشائر على نفوذ هائل في السلطة الوطنية الفتية، وقلص من إمكانية النخب المدينية ـ جلها من ضباط الجيش العثماني العراقيين والعرب الذين التحقوا بإدارة أول ملوك العراق الحديث الملك فيصل الأول ـ قلص من أمكانيات تلك النخب في أشاعة علاقات أجتماعية جديدة، أو قيم ومفاهيم معاصرة.
وأستند شيوخ العشائر في نفوذهم السياسي إلى نفوذهم الأقتصادي، الذي تعاظم بفضل قوانين سلطة الأنتداب التي سعت الى كسبهم الى جانبها، من خلال إقطاعهم مساحات أراض زراعية هائلة وحصة حاسمة في الهيئات التشريعية الصورية، وأهم من هذا وذاك تكريس سلطتهم على الفلاحين من خلال إقرار قانون عقوبات خاص بالعشائر يستند الى القيم العشائرية وليس الى القيم والقوانين المدنية. ومارس هؤلاء سلطة غاشمة في الريف، وجعلوا الفلاحين في بعض المناطق يعيشون أوضاعا تقترب من أوضاع الرق.
في تموز ــ يوليو 1958 أطيح بالنظام الملكي، وأعلن الجيش النظام الجمهوري في البلاد، ومع هذا التحول، الذي رافقته عملية إصلاح زراعي كانت تهدف الى تقويض نفوذ الأقطاع باعتباره القاعدة الاجتماعية الناشطة للنظام الملكي، وإنصاف الفلاحين وأجتذابهم إلى تأييد النطام الجديد، لكن تلك العملية كانت لها نتائج معاكسة، وبدلا من أن تكبح هجرة الفلاحين من الريف إلى المدينة، وتساعد على بقائهم في قراهم والحقول التي وزعت عليهم، وسعت من علمية الهجرة، وأنضمت الى التجمعات السكنية العشوائية البائسة على تخوم العاصمة التي أقامها الفلاحون الهاربون من جور الاقطاع، عشرات آلاف إضافية، حاملين معهم ثقافة وقيم الأقطاع الذي هربوا من ظلمه. وتحولوا إلى أيد عاملة رخيصة تنافس الأيدي العاملة المدينية، وتطغى عليها.
وسرعان ما أثمر نمط الحياة الفلاحية المتسم بالولادات المفرطة زيادة هائلة في نسبة سكان المدينة المرتبطين بالوعي العشائري المحافظ، ليمتد هذا الوعي لاحقا الى الحضر من سكان المدن ويطغى في النهاية على ما تحقق من أنفتاح قيمي ومفاهيمي في المدن حلال العقدين الأخيرين من الحكم الملكي، والعقد الأول من العهد الجمهوري، لتبدأ مرحلة ترييف الوعي والثقافة والقيم والمفاهيم الأجتماعية في المدن، وبالنتيجة في عموم المجتمع، حيث تلاشى الأنفتاح النسبي وساد الإنغلاق وبرز إلى جانب التخندق العشائري، تخندق آخر هو التخندق الطائفي، لأن المدينة كانت سنية في الغالب، والريف شيعيا في الغالب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* جدول الكوارث هذا استمده الباحث المرموق حنا بطاطو، في كتابة الموسوعي (( العراق ))، من كتاب المورخ المعاصر للعهد المملوكي أبن سند (( مطالع السعود )). والمؤرخ المعاصر أحمد سوسة، ومصدرين بريطانيين آخرين.