«الناس يصنعون تاريخهم بيدهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم، ولا بظروف يختارونها هم بأنفسهم، بل من خلال ظروف معطاة ومنقولة. تقاليد كل الأجيال الميتة تثقل، مثل كابوس، أذهان الأحياء».

كارل ماركس (الثامن عشر من برومير "لويس بونابرت")

لم تولد انتفاضة تشرين العراقية من فراغ سياسي، بل وُلدت من رحم الهوة السحيقة بين آمال العراقيين والاختيارات المجحفة للطبقة الحاكمة، وعبّرت في نفس الوقت وبشكل جلي، عن أزمة مجتمع متواصلة منذ عقود من الزمن، وبلاد غارقة في الحروب والاحتراب والكوارث، ودولة باعت مؤسساتها الى السلطوية واستسلمت لفوضى الهيمنة البدائية التي لم تترك سلاحا الاّ واستخدمته في سبيل افشال واجهاض مشروع الدولة الحديثة، دولة العدالة والمواطنة. انها تعبير عن حالة استقطاب حادة بين أقلية متسلطة جائرة وأكثرية (هم جيل الشباب) محكومة بالتهميش والاستبعاد من المشاركة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.

انّ العصر الذي نعيش فيه، لا يسمح بأي نوع من أنواع الإقصاء لأي فئة من فئات المجتمع، خاصة فئة الشباب التي انخرطت بشكل كامل في التطور التكنولوجي. فهذه الفئة هي القوة الرئيسية التي تدفع بعجلة التنمية الى الأمام، ولا يمكن لأيّ نموذج تنموي أن ينجح بدونها. لكنّ التهميش والإلغاء في هذا البلد المتنوع والمتعدد تجاوز الحدود هذه المرة، وتحول الى ظاهرة عميقة ولافتة وبغيضة، عمقت الشعور بالغبن، ووسعت المسافة بين الفئات الفقيرة والاخرى التي استحوذت على السلطة والمال. كما هددت بتفتيت وحدة المجتمع، وشجعت على ظهور بيئة ملائمة للعنف والتطرف، مما اضطر الكثير من الأفراد والجماعات الى اللجوء للعصبية الطائفية والعرقية طلبا للحماية.

تميزت انتفاضة تشرين ليس فقط في سلميتها (سلاحها الرمزي) واستمراريتها وزخمها الكبير، ولا في تنوع المشاركين فيها (خاصة المرأة العراقية التي خرجت محتجة على ما تواجهه من ظلم مزدوج)، ولا في ابتكارها لأساليب جديدة ومختلفة في التعبير، ولا لأنها جعلت من الاحتجاجات جزءا من هوية وطنية وثقافة مألوفة، ولا بالمطالب التي تدرجت من حقوق يومية اجتماعية واقتصادية الى المطالبة بحق المشاركة السياسية الفاعلة لعموم ابناء الشعب العراقي، وانما تميزت ايضا بارتباطها وتواصلها الذهني مع الموروث الثقافي والثوري العراقي والانساني الذي كانت مبادئه الإنسانية مصدر قوة وإلهام لديمومتها، فعزفت معه بسمفونية واحدة لحن الحرية والكرامة، ولم تعلن القطيعة مع ما سجلته الأجيال التي سبقتها من معارك وتضحيات، إنما، وعلى الرغم من خصوصيتها وملامحها المميزة، فقد كانت امتدادا طبيعيا لنضالات الشعب العراقي المختلفة.

فليس ما يدعو الى الاستغراب والمفاجئة، إذا قلنا، إنّ للرموز الثورية الوطنية والعالمية التي صنعتها التراجيديا البشرية حضورا ظاهرا وسط الخيام والجموع والساحات. فقد استلهم شباب انتفاضة تشرين من التراث الإنساني الكثير من المقولات والقصائد والاهازيج والتعبيرات المختلفة التي تؤصل هويته وتعبر عن فكره وحيويته، ومنها على سبيل المثال صورة الرجل القوي ورمز الثورة العالمية تشي جيفارا: ((ما يؤلم الانسان أن يموت على يد من يقاتل من أجلهم)) في إشارة الى الجنود الذين يجب أن يكون موقفهم الى جانب الشعب ومطالبه الحقة، أو ((لا تحزني أمي إن مت في غض الشباب، غداً سأحرض أهل القبور وأجعلها ثورة تحت التراب)) وهي دعوة وتحريض على مواصلة الاحتجاج، أو ((ليس الفشل أن نخفق في تحقيق أهدافنا، لكن الفشل هو أن لا نحاول الوصول إلى الهدف))، هذا بالاضافة الى صورته التي انتشرت على القمصان والحيطان حتى وصلت الى أعلى طابق من المطعم التركي او (جبل أحد) باعتباره ايقونة من ايقونات الانتفاضة البارزة.

كما سمعنا اهازيج وهوسات ثورة العشرين وانتفاضات العراق ووثباته ومحطاته التاريخية الكبرى، وقد تغنى بها المنتفضون في ساحات الاحتجاج باعتبارها من الفنون التعبوية المحفزة للقيم الاخلاقية وللروح التضامنية الوطنية. وايضا جرى توظيف (واقعة الطف) التي تحظى بحضور مؤثر في المخيلة الشعبية العراقية لما تختزنه من دلالات ايحائية في التضحية من أجل الحق والعدل ومقارعة الظلم، وأفضل ما جسّد هذا الاستدعاء، هي تلك الابيات التي اطلقتها الشهيدة ريهام يعقوب: (انا الحسيني من صدكَ، انت منو)،(آنا الولائي للوطن.. إنتَ منو......الخ؟)!.

ولم يكن رمز الثورة والتمرد، الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب بعيدا عن سوح التظاهر، فهذا الشاعر الذي لم ينحن لطاغية، له خصوصية متفردة في المروث الشعبي والثقافي العراقي خاصة بين ابناء الاحياء الفقيرة، لما يتمتع به من صفات الانسان الحر الثابت والمقاوم، والذي لم تغريه موائد السلطة والبلاط. فترددت قصائده، (المحكيّة على وجه التحديد)، على ألسن الشباب الغاضب، وصدحت حناجرهم بأغانيه المتحدية: ((.. أحاه، شوسع جرحك ما يسده الثار.. يصويحب، وحكَ الدم ودمك حار..)).

وبما انّ للإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي دورا توعويّا وتحريضيا رئيسيا في انتفاضة تشرين، فقد برزت قصائد شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري التي تمجد بطولات الشعب العراقي وشهداءه، لتملأ الصفحات وتحتل العناوين والواجهات، وتزيد المشاعر التهابا وحماسا، وتديم زخم الاحتجاج وتحافظ على عنفوانه، (سينهض من صميم اليأس جيلٌ.. مريدُ البأس جبارٌ عنيد ...... يقـايضُ ما يكون بما يُرَجَّى.. ويَعطفُ مـا يُراد لما يُريد).

لقد اثبتت انتفاضة تشرين بأنّها ليست دراما مسرحية، وانما فعل ثوري وغضب شعبي عارم، انفجر ليقدّم وسيظل يقدّم الكثير من صور التضحية والدروس العظيمة ذات القيمة النضالية والجمالية العالية. فهكذا انتفاضة، استطاعت ان تجمع حولها شرائح وفئات واسعة ومتنوعة من الشعب العراقي، وأن تحاكي الماضي وتستحضر وجهه الانساني المشرق، لا يمكن ان تموت، وسيبقى مرجلها مشتعلا، وجذوتها متقدة في العقول والمشاعر، وجذورها نابتة كنخلة في ارض خصبة.

 

عرض مقالات: