البحث في موضوعة اليسار الجديد وعلاقته في الماركسية، يتطلب في البداية البحث عن جذور أزمة حركة اليسار بمختلف فصائله وكذلك أزمة الماركسية، وما تركه انهيار الاشتراكية الفعلية من آثار عميقة، جعلت من المراجعة والشفافية والتجديد، السبيل الأنجع لتجاوز الأزمة وآثارها.

العلاقة بين الديمقراطية والاشتراكية

تطرح اليوم قضية هامة على حركة اليسار الجديد تتعلق بالعلاقة بين الديمقراطية والاشتراكية، وأمكانية التحول الديمقراطي السلمي الى الاشتراكية في ظل العولمة الامبريالية الوحشية. تلك الأسئلة الحارقة التي تواجه الحركة الشيوعية والعمالية العالمية وقوى اليسار بشكل عام تتطلب من الباحثين والمهتمين البحث في بطون الكتب الماركسية الكلاسيكية واعادة قراءة التراث والتجارب الاشتراكية والديمقراطية وتجارب اليسار بمختلف فصائله لتبيان العلاقة الجدلية بين الديمقراطية والاشتراكية، ومن خلال ذلك يمكن الاجابة على قضية هامة شغلت اليسار من منذ أكثر من قرن: هل الاشتراكية هدف الأحزاب الشيوعية والعمالية وقوى اليسار النهائي في الوقت الراهن ؟ وما مدى امكانية تحقيقه ذلك في ظل العولمة الامبريالية الوحشية؟

لقد عالج ماركس ورفيقه انجلس قضية الديمقراطية والاشتراكية في العديد من كتاباتهما، كخطوط عامة في إطار مناقشاتهما للأحداث والظواهر الاجتماعية في القرن التاسع عشر، وما رافقها من معارك طبقية أجتماعية، وانتفاضات سلمية ومسلحة وثورات برجوازية أحدثت ثوره صناعية غيرت مجرى تاريخ الانسانية.

كتب ماركس وانجلس البيان الشيوعي في عام 1848 بتكليف من عصبة الشيوعيين ليكون برنامجا لها، وعبر ماركس وانجلس من خلاله وبشكل مختصر عن جوهر تصوراتهما حول طبيعة التطور الاجتماعي وطبيعة الصراع الطبقي القائم في المجتمع الرأسمالي، والذي تم تلخيصه في العبارة التالية "أن تاريخ المجتمعات التي قامت حتى الآن، كان تاريخ النضال بين الطبقات".(1)

وحاول ماركس توضيح عملية الصراع الطبقي التناحري في المراحل التاريخية المختلفة بين الطبقات الرئيسية المتصارعة، فكتب في البيان الشيوعي "فالحر والعبد، والنبيل والعامي، ومالك الارض والغني، والمعلم والصانع، المضطهِد والمضطهَد كانوا في تناحر دائم فيما بينهم، كانوا يخوضون نضالا مستمرا، تارة خفيا، وطورا ظاهرا، نضالا كان ينتهي دائما اما بإعادة بناء الصرح الاجتماعي كله بالسبيل الثوري، وأما بهلاك الطبقات المناضلة معا".(2)

وحاول ماركس وانجلس التأكيد عبر البيان الشيوعي على ديمومة الصراع الطبقي الاجتماعي واستمراريته وتمظهره بأشكال مختلفة، فجاء في البيان "أما المجتمع البرجوازي الحديث الذي نشأ من باطن المجتمع الاقطاعي الهالك فانه لم يقض على التناحرات الطبقية، بل أقام طبقات جديدة، وظروفا جديدة للاضطهاد، أشكالا جديدة للنضال محل القديمة".(3)

وأشار ماركس في كتابه (النضال الطبقي في فرنسا) الى أهمية الاقتراع العام والديمقراطية التمثيلية، وعرض فيه تصوراته حول طبيعة الاصطفاف الطبقي في المجتمع البرجوازي وطرق الانتقال الى الاشتراكية، فكتب يقول "لقد تتبعنا خطوة فخطوة كيف أخد الفلاحون وصغار البرجوازيين، والطبقات المتوسطة في المجتمع على العموم ، يقفون الى جانب البروليتاريا .....، الاستياء من ديكتاتورية البرجوازية، الحاجة الى تحويل المجتمع، الحفاظ على المؤسسات الجمهورية -  الديمقراطية بوصفها أداة هذا التحول، التلاحم حول البروليتاريا بوصفها القوة الثورية الحاسمة".(4)

أما تصورات ماركس حول الاشتراكية فقد ميزها عن التصورات الاخرى بالقول "هذه الاشتراكية انما هي إعلان الثورة المستمرة، الديكتاتورية الطبقية للبروليتاريا، بوصفها درجة ضرورية للانتقال الى القضاء على الفوارق الطبقية بوجه عام، الى القضاء على جميع العلاقات الاجتماعية المطابقة لعلاقات الانتاج هذه، الى اجراء انقلاب في جميع الافكار النابعة من هذه العلاقات الاجتماعية".(5)

لقد حاول ماركس وانجلس، ومن بعدهما لينين والعديد من قادة ومفكري الحركة الشيوعية والعمالية وحركة اليسار بشكل عام، التأكيد على أن الكفاح الطبقي له أشكال وطرق متعددة مرهونة بطبيعة تطور المجتمعات الزمانية والمكانية، وان الماركسية فلسفة حية تعتمد الدراسة العلمية للظواهر والأحداث والقضايا الاجتماعية والطبيعية وفق النهج المادي الديالكتيكي، وان البيان الشيوعي وكتابات ماركس وانجلس ولينين وغيرهمم من مفكري الماركسية، قد كتبت في ظروف زمكانية محددة ولكنها تشكل جزءا من تاريخ الحركة الثورية العالمية، ومازال (البيان الشيوعي) يحتفظ بمصداقية وصحة القضية الجوهرية التي تمحور حولها، الا وهي ان تاريخ المجتمعات الانسانية هو تاريخ الصراع الطبقي الاجتماعي وان تغير أسلوب الانتاج مرهون بحل التناحر الاجتماعي الطبقي بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج .

اليسار والعولمة

يواجه اليسار اليوم في ظل العولمة العديد من القضايا التي تطلب النقاش الجدي حول مستقبله وتجديد أدواته وخطابه ووسائله النضالية بما يتلاءم وواقع العولمة الامبريالية الوحشية!

قبل تناول موقف اليسار من العولمة، سنتناول ماهية العولمة وآثارها. يقول الكاتب عبد الحي يحيى زلوم في مؤلفه (نذير العولمة) ان "العولمة ، كرؤية أقتصادية سبقت مثل تلك الاختراعات التكنولوجية التي حملها الينا عصر المعلومات، ولكن تلك الاختراعات التكنولوجية كانت العربة التي حملت تلك الرؤيا لتنطلق بها بسرعة فاقت التوقعات".(6)

ولم تتميز العولمة عن سابقاتها من مراحل تطور الرأسمالية في جوانب الدورة الاقتصادية حيث لا زالت الأزمة الدورية للرأسمالية سببها فائض الانتاج والعلاقة بين العرض والطلب، ولازال تمرد وسائل الانتاج على تخلف علاقات الانتاج هو الواعز لتطويرها، ولازال التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج هو القانون الحاكم للعلاقات الرأسمالية.

لكن في ظل العولمة تجلت سيادة الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق الحر، حيث سرعة نمو قوى الانتاج وتسارع تغيرها المتواصل، والتباين الصارخ في توزيع الثروات المادية والاجتماعية، في ظل مركزة رأس المال واتساع الفوارق الطبقية الاجتماعية، والافقار المتزايد للجنوب مما ساهم في اتساع الفجوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير، وتراجع دور الدولة في خلق التوازن القلق بين العمل ورأس المال عبر الضرائب ورأسمالية الدولة، وتبني برامج التنمية المستدامة، لصالح سيطرة ادارات الشركات العابرة للقارات ومتعددة الجنسيات على الحكومات والدول وادارتها بواسطة ممثليها السياسيين .

كما ساهمت العولمة في فتح وتخطي حدود الدولة الوطنية، والهجوم على دورها في تبني السياسية المالية والنقدية الوطنية، والغاء الحدود والقيود الكمركية لصالح اتفاقية التجارة الدولية والسماح للانتقال السلس لحركة رأس المال دون قيود. يقول الباحث فالح عبد الجبار واصفا حال الدولة القومية في ظل العولمة في كتابه (ما بعد ماركس) إنه "مثلما أن الدولة القومية حطمت الطوائف والجماعات المغلقة ... كذلك فان العولمة تحطم عزلة الدولة القومية بفعل ثورة المعلومات والاتصالات".(7)

إن واقع العولمة الامبريالية الوحشية يضع قوى اليسار أمام خيارات صعبة تتطلب في البدء العودة الى ترتيب أوراقهه الفكرية، وفي مقدمتها أن الصراع الفكري بين العمل ورأس المال لم يعد في اطار الدولة القومية (الوطنية)، بل اتخذ طابعا عالميا، بين القوى التقدمية المناضلة من أجل ايجاد توازن بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج، والقوى الرجعية المتمثلة في الليبرالية الجديدة الداعية الى سياسة اقتصاد السوق الحر البربرية، التي تكرس الاضطهاد والاستغلال والاستلاب، التي جعلت من أقلية تملك 90% من الثروات المادية .

وقد تناول ماركس في قراءته للتاريخ الصراع الطبقي وتطور الرأسمالية المستقبلي في ظل الثورة الصناعية، فكتب يقول "البرجوازية في استثمارها السوق العالمية تطبع الانتاج والاستهلاك في جميع البلدان، بطابع كسمبولوتي (لا وطني).. لا قومي ..." أي أن الانتاج الصناعي في مرحلة التنافس الرأسمالي يتطور بتخطي الحدود القومية لكل بلد ويصبح عالميا في كل جوانبه، حركة انتقال رأس المال، حركة البضائع، الموارد الأولية، الانتاج والتوزيع والاستهلاك. ويصبح الاضطهاد والاستغلال مركبا وبلا حدود، ويأخذ طابعا معولما وحشيا، وتصبح السطوة فيه لطغمة رأس المال المالي المتحكمة بجميع الأسواق العالمية عبر الشركات متعددة الجنسية والاحتكارات العابرة للقارات.

وهناك أمثلة عديدة لتأثير العولمة على الاقتصادات الوطنية والاقليمية والعالمية، مثل أزمة سوق الأوراق المالية الاسيوية (النمور الورقية) وأزمة سوق المناخ في الخليج العربي والقضية الراهنة للانخفاض المدوي للأسعار النفط العالمي. وعملت الطغمة المالية العالمية عبر أدواتها على فرض سياسة اقتصاد السوق الحر من خلال القروض المجحفة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية المشروطة ببرامج التكيف الهيكلي وتسريع الخصخصة وانهاء دور رأسمالية الدولة الناظم لعملية التوازن في الاقتصادات الوطنية والقومية، وتعطيل دور الدولة الوطنية وجعلها جهازا تنفيذيا يراعي مصالح الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية والعابرة للقارات .

يطرح الباحث الاقتصادي المصري سمير أمين فكرة بعث أممية جديدة لمواجهة الرأسمال المعولم. وقد كتب يقول "ثمة اذن أرضية موضوعية تتيح أعادة بناء (أممية الشعوب) في مواجهة كوكبة الرأسمال. لئن استحالت ادارة العالم بصفته (سوقا عالمية)، ولئن أستحال استبعاد العامل السياسي والايديولوجي، والإكتفاء بالخضوع لتلك القوانين الاقتصادية الحتمية المزعومة، فان واقع العولمة لا يمكن أيضا أن ينتهى، فلا يمكن تسيير التاريخ الى الخلف، وبالتالي فأن فكرة العودة الى النماذج التي قام على أساسها أزدهار مرحلة مابعد الحرب تمثل هي الأخرى بديلا وهميا".(8)

هل يمكن لليسار الجديد مواجهة هذا الهجوم الهائل للشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية والعابرة للقارات، في ظل الثورة المعلوماتية والتطور السيبراني الهائل، وهو يحارب بوسائل وطرق بالية وقديمة وبنية تنظيمية شائخه وفي ظل أمية انترنيتية لقياداته وكوادره!؟

لابد لليسار من تجديد نظريته بما يتلاءم والتطور العلمي الهائل، من خلال الربط بين النظرية والعلم، والاستفادة من المدارس الفكرية النقدية الجديدة، مدرسة فرانكفورت، ومدرسة شيكاغو، وتجارب اليسار في أمريكا اللاتينية وتجارب الاشتراكية الديمقراطية في أوربا الغربية (دولة الرفاه الاجتماعي) أضافة الى تجارب الحركة الثورية العالمية.

وهذا يستدعي دراسة التشكيلة الرأسمالية في ظل العولمة الامبريالية، واعادة النظر في الفهم الميكانيكي للمادية التاريخية الذي أوجدته الستالينية والاستفادة من تطورات علم الاجتماع، وتطوير المادية الديالكتية على ضوء التطورات الكبيرة التي أحدثتها الثورة العلمية التكنولوجية، المتمثلة في الأتمتة والسيبرانية. يقول الباحث فالح عبد الجبار بهذا الصدد "ان مهمة نقد الرأسمالية، وتحليل أشكالها المتطورة المتحولة بأستمرار، والبحث عن سبل تجاوزها، مهمة راهنة، وهي أساس أستمرار الماركسية ما بعد ماركس".(9)

وتمس الحاجة أيضا الى دراسة العولمة كظاهرة كونية من مختلف جوانبها، السياسية والاقتصادية والفكرية والبيئية، ودراسة دور الطبقات الاجتماعية، وطبيعة الصراع الطبقي الاجتماعي، وطبيعة الدولة القومية والوطنية في ظل هيمنة رأس المال المعولم المتعدد الجنسيات والعابر للقارات.

ويتطلب الأمر أيضا تطوير البحوث النظرية حول امكانية الانتقال السلمي الديمقراطي الى الاشتراكية في ظل العولمة، وما هي الأشكال التي يتخذها، على سبيل المثال لا الحصر هل هو انتقال منفرد للدول ام انتقال جماعي على شكل اتحادات أقليمية .... الخ

كل الذي أسلفناه يحتاج من اليسار الى تجديد وسائله وطرقه وأداواته النضالية واشكال ووسائل كفاحه وبنيته وهيكليته التنظيمية، واحترام الرأي الآخر ورأي الأقلية الفكرية وتطوير مفهوم اليسار بحد ذاته ليشمل كل القوى المعادية للعولمة الامبريالية الوحشية، من أحزاب وقوى وتيارات ونقابات ومنظمات مجتمع مدني ومنظمات مهنية ديمقراطية، تجمعها العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي.

________________________________

الهوامش:

  1. ماركس، انجلس - المجلد 2 - البيان الشيوعي ص66 - دار التقدم موسكو
  2. المصدر السابق نفسه – ص67
  3. المصدر السابق نفسه - ص67
  4. ماركس، انجلس - المجلد 3 - النضال الطبقي في فرنسا - ص166- دار التقدم موسكو
  5. المصدر السابق نفسه - ص169
  6. نذر العولمة -عبد الحي يحى زلوم - ص65
  7. ما بعد ماركس - فالح عبد الجبار - ص118
  8. في مواجهة أزمة عصرنا - سمير أمين – ص99
  9. ما بعد ماركس- فالح عبد الجبار - ص60
عرض مقالات: