خلال سبعينيات القرن الماضي وفي أوج فورة الحماسة الشبابية اليسارية التي كُنا عليها وتحديداً بعد سنوات قليلة من تخرجي في الجامعة ، أتذكّر شخصياً كُنت مُغرماً بشدة للإستماع  ليلياً الى برامج إذاعة جمهورية اليمن الشعبية الديمقراطية التي كان يحكمها الحزب الاشتركي ، وكان بثها يصلنا في البحرين بوضوح ليلاً على الموجة المتوسطة فيما ينقطع وصوله نهاراً ، وكان يشدني إليها بوجه خاص ماتبثه من برامج وأخبار تتعلق بأنشطة الدولة والحزب ، وكذلك أخبار المنظومة الاشتراكية وحركات التحرر العالمية ، بالإضافة إلى استمتاعي بالإستماع إلى أغاني فرقة الطريق العراقية والفنان جعفر حسن حيث كانت إذاعة عدن هي الإذاعة العربية الوحيدة التي تبث هذا النوع من الأغاني ذات المضامين التقدمية الثورية اليسارية   . 
طاف بمخيلتي هذا الجانب من ذكرياتي الشبابية وأنا أقرأ المقال الرائع للكاتبة العراقية منيرة أميد الذي نشرته مؤخراً واستعادت فيه على نحو مفصّل دقيق وقائع قضية اغتيال الاستاذ الجامعي العراقي في اليمن الجنوبية الشهيد توفيق رشدي على أيدي بلطجية النظام البعثي الدكتاتوري المقبور في يونيو / حزيران من عام 1979 حيث لاذوا بالفرار فور ارتكابهم الجريمة إلى سفارة هذا النظام في عدن لما تتمتع به من حصانة دبلوماسية ، وقد أشادت الكاتبة في مقالها بموقف السلطات الأمنية الحازم بمحاصرة مبنى السفارة واجبار القتلة المجرمين المتحصنين داخله على تسليم أنفسهم ومن ثمَ تقديمهم الى المحاكمة . وهنا اتذكّر جيداً متابعتي لجلسات هذه المحاكمة التي يُعاد بث تسجيلاتها  ليلاً .
وإذ تستعيد الكاتبة تفاصيل هذه الجريمة التي ارتكبها النظام الدكتاتوري الدموي السابق فلكي تقارن هذا الموقف الحازم للسلطات اليمنية بالموقف الرخو المماطل ، والذي لا يخلو من الانتهازية الذي يقفه الرئيس التركي رجب اردوغان من جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده  في اسطنبول ، ناهيك عن تمكين حكومته القتلة ( 18 مُجرماً ) من مغادرة المدينة عائدين أدراجهم الى بلادهم ، ثم سماحها بعدئذٍ لأهم شاهد على الجريمة ، ألا هو القنصل محمد العتيبي بمغادرة المدينة إلى بلاده أيضاً وذلك بعد مضي  15 يوماً تقريباً من وقوع الجريمة رغم وجود لجنة تركية- سعودية مشتركة للتحقيق لحظة مغادرته دون أن تطلب أنقرة من الجانب السعودي فيها بالتحفظ عليه مؤقتاً لاستجوابه أمام اللجنة  . كما قارنت الكاتبة أميد الشفافية التي اتبعتها سلطات اليمن الجنزبية  بالكشف عن ملابسات الجريمة وإسراعها بتقديم الجناة الى المحاكمة ، بالمماطلة والتسويف التي تتبعها السلطات التركية في كشف ملابسات الجريمة بذريعة عدم اكتمال التحقيق وعدم تعاون الجانب السعودي ، وما تلك المماطلة إلا لأغراض انتهازية وابتزازية سياسية ، وإن كانت أنقرة أخذت تبدل في الآونة الأخيرة من لهجتها بشئ من التصعيد المحسوب   .    
في مماطلتها عن كشف النتائج الأولية للتحقيق ، تتذرع أنقرة بعدم تعاون الجانب السعودي معها ، لكن حتى هذا التذرع لا تفصح عنه تركيا بصورة رسمية ، بل غالباً ما يأتي عبر تسريبات من مكتب الادعاء العام إلى وسائل الاعلام  أو من خلال تصريحات خجولة مقتضبة على لسان حكوميين وبعض قادة الحزب الحاكم  . أما عن امتناعها عن مباشرة تفتيش القنصلية فور وقوع الجريمة  فتبرر أنقرة ذلك باتفاقية فينا للعلاقات البلوماسية لعام 1961 ، واتفاقية فينا للعلاقات القنصلية لعام 1963, وهي هنا إنما تريد أن تظهر أمام المجتمع الدولي بمظهر الحريص بشدة على احترام نصوص الاتفاقيات الدولية متذرعةً  بأنها الحائل الذي يقف أمامها دون تعقب الجناة والقاء القبض عليهم بأسرع وقت ممكن ، فكأنما نصوص الاتفاقية عدت بالنسبة لها مُقدّسة في مطلق الاحوال كتقديسها للقرآن والنصوص الدينية ، هي التي لطالما انتهكت المعاهدات والمواثيق الدولية بعدم التدخل في شؤون الدول الاخرى وانتهكت مبدأ حسن الجوار مع سوريا عندما فتحت اطول حدود لها معها لتمرير عشرات الآلاف من الدواعش والجماعات المسلحة الارهابية ليعيثوا في أراضي سوريا والعراق فساداً وتقتيلاً وارهاباً وتخريباً طوال سنوات منذ اشتعال الحرب في سوريا عام 2011 ،  وهي التي أيضاً داخلياً تنتهك اتفاقيات حقوق الانسان الدولية وحرية الصحافة والتعبير بحق عشرات الالوف من مواطينها ، في حين تتناسى ان التزامها بأحكام اتفاقيتي فينا المشار إليهما مرهون باحترم الجانب الآخر لبنودها ، في حين أن الجريمة وقعت في قنصليته وهي جريمة مُروّعة لا نظير لها في التاريخ ، ولا مثيل لها لا في تاريخ اضطهاد الصحفيين واغتيالاتهم في العالم ولا في تاريخ العلاقات الدبلوماسية والقنصلية الدولية  ؛ وما ذلك إلا لأن تركيا الاردوغانية - كما أسلفنا - تعمد بطريقة انتهازية لتوظيف الجريمة لعقد صفقات تحت الطاولة تخدم مصالحها السياسية والاقتصادية الانانية الضيقة في علاقاتها التي يشويها مرحلياً شئ من التوتر مع واشنطن والرياض قبيل وقوع الجريمة ، وصولاً إلى ما يُحلم " السلطان أردوغان " من تسويق دوره سياسياً ودينياً كقطب رئيسي أوحد في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي ليرث الدور السعودي  بعد أن ينضج انهاكه او زواله تماماً في ضوء تداعيات قضية خاشقجي ، وغير عابئة بذلك بطابع الجريمة الاستثنائي البالغ الخطورة الذي يعطيه الحق بالقبض على الجناة فالقوانين الدولية لا تحصنهم للافلات من العقاب في جريمة هزت الضمير العالمي بأسره ، ووبخاصة أن كون الجريمة اُرتكبت بحق كاتب صحافي مسالم ذنبه الوحيد هو آراؤه المخالفة لنظام بلاده فقط ، أيا كان هنا اختلافنا الشديد معه أوالفكر الذي يعتنقه ،  علماً بأن الضحية  كان كاتباً من أشد الموالين لنظام بلاده ويرفض مناداته ب " المعارض " لقيادة  بلاده ويكتب مقالاته الانتقادية في الصحافة الامريكية ويدلي بآرائه لوسائل الإعلام باسلوب اسداء النصح وعلى نحو خجول وحذر جداً  . 
وقصارىٰ القول إن قضية خاشقجي باتت اليوم مرشحة  للمزيد من التداعيات السياسية الخطيرة لفترة قد تطول ، وهي إذ تواجه شبح توتر وشيك في العلاقات التركية - السعودية لا مناص من وقوعه بعد أن يستنفد أردوغان مآربه من المماطلة في التحقيق ، فإنها تكشف من جهة اخرى النفاق الفاضح السافل اللاأخلاقي الذي تقفه الدول الرأسمالية الغربية وعلى رأسها أميركا في ممالئتها للدولة المسؤولة عن الجريمة أو اصدار بيانات وتصريحات خجولة وذلك خشية من خسارتها أرباح صفقات التسلح التي أبرمتها مع الرياض ، حتى لو جاء ذلك على حساب مبادئ حقوق الإنسان التي لطالما تشدقت بها زوراً وبهتاناً ، وكُل ذلك من شأنه بطبيعة الحال أن ينعكس ايجاباً بتمخضه في نهاية المطاف عن اختصار طريق النضال الشائك الطويل والمتعثر الذي تخوضه  شعوب المنطقة وحركات التغيير من أجل إصلاحات جذرية تكفل حرية التعبير وحرية الصحافة  وسائر الحريات العامة ، ومن ثم تضع  حداً لمرحلة مديدة من العذابات  والآلام في سبيل تحقيق هذا الحُلم الذي طالما انتظرت تحقيقه وقدمت من أجله  تضحيات هائلة على مدى عقود طويلة منذ استقلال بلدانها عن المستعمِر . 
عرض مقالات: