بيروهيتورا * في حياته القصيرة التي مضت كـومضة تبددت في فراغ التاريخ المعتم، لم يكن خطيبا متشدقا يحبط اباطيل الاخرين بدفوعاته الجدلية، كما فعل شيشرون في مجلس شيوخ روما، كما لم يكن مجالدا نوبيا يجيد مراوغة طعنات الحراب الرومانية، والافلات من الموت في ميدان الكولوزيوم، لم يرد اسمه في الحوليات الرومانية، التي تدون سيرة المتمردين كما فعلت مع مارك انتونيو او السيناتور بومبي، وهو ايضا لم يشترك في صد هجوم الفيلق التكتيكي الروماني الى جانب سبارتكوس في ثورته الدموية التي انتهت بإخفاق مفجع “ النهاية غير الاستثنائية التي تطال الثورات التي يقودها الرعاع “ كما فعل فيما بعد بقرون عديدة مواطنه العبد البابلي بيلشتار، بعد ان توثقت صداقته بزعيم التمرد في مهجع عفن بين الجرذان النافقة والافاع الكسيحة، في حرب الحرية التي خسر فيها العبيد ارواحهم، وتسمرت جثثهم على الصلبان الرومانية، هناك سترى العديد من الجثث الممزقة وهي تتفسخ بينما الغربان تلقتط عيونهم المنطفئة، على جانبي الطريق التي امتدت عشرات الفراسخ، حتى مدخل مدينة روما المتغطرسة، التي تنفست الصعداء، ما ان تخلصت من عبيدها المارقين.

بيروهيتورا، لم يكن احجية او طلسما في رقيم مسماري، لم يكن مواطنا فارسيا يتحدر من جبال اللازورد او جنديا اغريقيا ترك خدمة سيده المكدوني بعد ان وجد ضالته في امرأة بابلية وعاش معها ايامه الاخيرة  في بابل ، لم يكن حجارا نوبيا، مضت حياته حتى نهايتها وهو تزيح الحجر في مناجم ذهب الصحراء الجنوبية، لسبب بسيط جدا، فــ بيروهيتورا ولد قبل تمرد عبيد روما  بــ 3500 عام، رأت عيناه النور قبل ولادة اتحاد الممالك الاغريقية على يد فيليب المكدوني بألفي عام، عندما لم تكن هناك اثينا بعد او بيرسبوليس عاصمة العاهل داريوس، التي لم تكن في حينها سوى قرية وضيعة لقطاع الطرق واللصوص،  بيروهيتورا المحنك، بخوذته البرونزية المزينة بقرص الشمس “شمش”  شارة قائد جيش اوروك الذي يقاتل في الطليعة مع جنوده.

انها الاسطورة التي اهملها الرواة،  فضاعت تحت ركام الحوليات البابلية والمسماريات، كعادة السارد البابلي الذي لا يميل الى الاطالة ولا يحب الاطناب، طالما تعلق الامر بسرد الاسطورة” المهملة”  التي تبدأ بظهور طاغ لعاهل اوروك جلجامش، نكتشف ان له دورا اخر في هذه الملحمة الواقعية الى حد كبير، فلا كائنات سماوية ولا وحوش تتمتع بقدرات خارقة تحدد مصير الافراد، حيث نكتشف ان جلجامش في هذه الملحمة، ليس اكثر من ملك يتمتع بروح وطنية، ملك بسلطات مقيدة، فهو لا يملك سلطة اعلان النفير وتعبية مواطنيه تمهيدا لإرسالهم الى جبهات القتال، في ذلك الزمن الغابر نجد ان اعلان الحرب، يتطلب اجراءات معقدة، هذا الامر حدث قبل 5523عاما “ وفي الــ 23 عاما الاخيرة وضعتها للتشويق واثارة علامات الاستفهام ليس الا”  وجد جلجامش نفسه ان لا مفر من مواجهة مجلس شيوخ كولاب لمناصرته في اعلان النفير، بعد ان قرأ عليهم بنود المعاهدة المذلة التي ارسلها اكا، ملك مملكة كيش، يطالبهم فيها بالانصياع  ودفع الاتاوة، اخفق جلجامش في مسعاه وظل حائرا وهو يستمع الى رد الشيخ الطاعن في السن، فمجلس الشيوخ الموقر، رفض منحه تفويض اعلان النفير تمهيدا للحرب المقبلة، بل انهم طالبوه بختم تلك المعاهدة المذلة، فالحرب ضد كيش ستقضي على الاخضر واليابس، هكذا اخبروه بعد الجدال العنيف الذي  احتدم بين الملك وعجائز مجلس الشيوخ. قال جلجامش:

ليسوا اكثر من  عجائز يخافون الحرب والموت يبعد عنهم خطوة واحدة.

التلميح والتعريض كان واضحا في كلام جلجامش عن شيخوختهم، بعد ان اذعنوا لشروط المعاهدة المهينة التي فرضها الملك “اكا” عاهل كيش على مدينة كولاب، التي عانت كثيرا من الصراعات الداخلية بسبب سطوة كهنة المعبد وسيطرتهم على مقاليد الامور في المملكة، لم يجد جلجامش حلا سوى الذهاب الى مجلس الحرب، وهناك اخذ يحرض اعضاء المجلس، كان اغلبهم من الفتية، على مساندته والوقوف الى جانبه في اعلان الحرب ضد كيش وملكها الطاغية اكا.

في خطبة قصيرة قال لهم جلجامش : في الحرب سنموت بشرف.

انتهت خطبته القصيرة جدا بعاصفة من التصفيق المدو، شعر بالامتنان وهو يتطلع في وجوه رفاق السلاح، بعد ان نال موافقتهم على اعلان النفير والشروع في الاعداد للحرب المقبلة . فيما بعد، قاتل الجنود المراهقون ببسالة وشراسة وعنف لم تعهد في غيرهم، بالأحرى لم يكن هناك أي منفذ سوى القتال تحت راية الحرب، التي تتدحرج متثاقلة وهي تلقي بظلالها على القائد المحنك بيروهيتورا.حتى الاسم المموه وغير المعتاد، قد يخدع الاخرين وهم يحاولون بلا جدوى تعقب اصوله، بعد ان التبست عليهم اصول الاسم الغريب المتفرد: بيروهيتورا، عندما ارعد بصرخته المدوية وهو يقوض الاغلال البرونزية التي احاطت ذراعيه الضخمتين، بعد ان اسره جنود العاهل الكيشي اكا، الذي فقد توازنه اثر صيحة بيروهيتورا، فسقط منكبا على وجهه فتبعثرت الخرز الملونة التي تزين لحيته المستعارة، فتلطخت سحنته الممتقعة بالتراب، الامر الذي دفع بالحراس الملكيين الى الاعتقاد بان ملكهم اكا قد قتل، الامر الذي قادهم الى رفع راية الاستسلام.

في نشوة النصر غير المتوقع ، ككل نهاية دراماتيكية تعقب الحرب، صفح جلجامش عن عدوه اللدود اكا، وذلك بسبب الاريحية التي شعر بها سيد كولاب الاوحد، بعد ان ثمل بالعديد من كؤوس النبيذ والجعة، حتى انه طلب من الملك  اكا عاهل كيش، مشاركته في الاحتفالات التي واصلت الليل بالنهار لعشرة ايام  وافتتاح قوس النصر الذي اقيم عند البوابة الكبرى باحتفال مهيب قرب مسلة اسطوانية من حجر الديورانيت، تضمنت تفاصيل كثيرة عن تلك الحرب والملابسات التي حدثت خلالها. في النهاية صدحت موسيقى القيثارات والمزامير والطبول ورقصت حسناوات كولاب للتسرية عن زعماء الحرب. رجع ملك كيش  في عرش من الريش كما يقال في تلك المناسبات مع عربات مليئة بجرار النبيذ السوري  وحلي اللازورد والثياب الكتانية والسجاد الوثير! تجرها بغال قوية “ في ذلك التاريخ لم تكن بلاد النهرين تعرف ترويض الخيول البرية بعد” .

لما لا .. فالحرب انتهت..

بيروهيتورا رفيق جلجامش وحارس شخصي لسيد كولاب، فقد اثره عام 3495 قـ مع كتيبة المحاربين الخالدين في صحراء عربو،  كان في حملة مطاردة  قبائل البدو التي هاجمت تخوم المملكة. تبدو هذه النهاية مفبركة الى حد كبير، وضعت وفقا لإيقاع المصادفة و الاحتمالات .

* ورد ذكر بيروهيتورا في ملحمة سيد كولاب التي تصف الحرب التي دارت بين جلجامش والملك اكا حاكم كيش وجاء فيها سرد الحوار الذي دار بين جلجامش ومجلس الشيوخ ولاحقا خطاب جلجامش في مجلس المحاربين الذي عد اقدم نص معروف تاريخيا يتحدث عن الديموقراطية . يمكن الاطلاع على كتاب د. عبدالرضا الطعان (تاريخ الفكر السياسي القديم في العراق) .

عرض مقالات: