كنت صبياً وأنا أدخل مقهى البرلمان مع أخي الأكبر "ستار" في اوآخر السبعينيات من القرن الماضي، كان أخي للتو قد خرج من الاعتقال في الأمن العامة هو ومجموعة من اصدقائه بعد نهاية الجبهة الوطنية. أذكر جيداً صيف عام 1979 أصطحبني معه الى مقهى "البرلمان" في شارع الرشيد وإلتقى اصدقاءه من الشباب آنذاك ، كان حديثهم ينصب حول صديقهم الشاعر "باسم حسن" الذي اعتقل هو ايضاً ولا احد يعرف بمصيره منذ أيام! وأثناء حديثهم وقلقهم عليه دخل باسم إلى المقهى والجميع ارتسمت الابتسامة على وجوههم فرحين بدخوله، اجتمعوا من حوله ليطمئنوا عليه وهو يحدثهم بهدوء وطيبة نادرة، قل ما رأيتها عند آخرين، كان الشاعر باسم حسن نحيفاً طويلاً وسيماً، عيناه لونها أقرب الى الخضراء صوته فيه من الشجن الكثير وهدوؤه وطيبته تعكس طيبة أهل مدينته الديوانية. وبعد أن تخرج من المعهد الطبي عمل في بغداد بمختبر طبي، لكني أذكر جيداً أنه نشر قبل فترة إعتقاله قصيدة في مجلة الاقلام او مجلة الطليعة الأدبية بعنوان "الملوك" القصيدة ترمز الى نظام البعث وممارساته القمعية في تلك الفترة ، وكان ثمة حديث يدور في مقهى البرلمان عن تلك القصيدة، وبعد ذلك انزوى باسم في عزلته وهاجر الكثير من أصدقائه الى المنافي ومات آخرون في الحروب بينما باسم فضل العزلة، ونشر بعض القصائد الجميلة في الصحف والمجلات العراقية، ومن الكمد والقهر مات باسم حسن الشاعر العراقي السبعيني الذي لم يتذكره إلا الأصدقاء، مات في وطنه حزينا على ما آلت إليه البلاد من خراب ودمار وقهر وحروب! مات باسم حسن على غفلة من الزمن المرّ في مدينته الديوانية قبل سنوات ثلاث، الصحافة العراقية لم تنشر حتى خبر وفاته لكن أصدقائه نشروا الكثير عن رحيله المؤلم والمفاجئ.
في قصيدة باسم حسن الجميلة وهي بعنوان "أرأيت؟" والتي يصور فيها حبه وحزنه ومراراته وقهره وخساراته وفقدانه الكثير من الأشياء التي كان يحلم بها طوال حياته، لكنه لم يحصل إلا على الفقر والسجن والمطاردة في أزقة بغداد ومكان عمله من قبل رجالات الأمن حين جاء الى العاصمة بغداد ودرس فيها وهو يحلم بالريش والفاختة بينما ذاك الآخر يحلم أحلام المترفين، كان يسأله ويجيب والشاعر يوضح مأساته في تلك القصيدة الجميلة والتي تعتبر من القصائد الباهرة في جمالها رغم الحزن والسوداوية التي تحيط بها!
يقول الشاعر العراقي الراحل باسم حسن في مقطع من قصيدته "أرأيت":
أرأيت؟
أنا جئتُ من نخلةٍ حالماً
بالعصافير والريش والفاختةْ
وأنت حلمت بسيارة ٍ وبيتْ
أرأيت ؟
أنا في الظلام ُقتلتُ وحيداً
وأنت بقيتْ..!

عرض مقالات: