يبدو أن استعادة الدكتور طه حسين ستظل هاجسا يرافقنا ونحن نلامس اسئلة التنوير والعقلنة، والبحث عن كلّ ما يتعلق بأسئلة الحرية، والموقف من قيم الحداثة والتجديد وبناء المجتمع السليم.
لقد ادرك طه حسين خطورة اخفاق مشروع التنوير، عبر اخفاق مشروع التعليم والاشباع وهيمنة الرثاثات الفكرية والشعبوية على المجتمع، وبشكل خاص المجتمع المصري، والذي قد يشبه شعوبنا جميعا، وهذا ما يُعطي لأفكار طه حسين أهمية بناء مؤسسات للحداثة، عبر وجود مؤسسات للفكر والتعليم والمعرفة، والثقة بمشروعية العقل النقدي..
إنّ إخفاق مشروع الحداثة، يعني- في الجوهر- إخفاقا لمشروع ذلك التعليم، ولهشاشة العقل النقدي في مواجهة(مركزيات) التاريخ والسلطة والجماعة، وكلها تنظر الى فكرة التحديث بريبة، وتضعها خارج السياق وخارج الاستعمال..
ومع استعادة سيرة طه حسين بوصفه المؤسس التنويري يُثار سؤال الإخفاق مرة أخرى، الإخفاق الذي يمسّ وظائف النخب الثقافية والمؤسسات والسلطة، والذي يستدعي فحصا ومراجعة لكل ما جرى!! وكيف باتت الحداثة في نظر الأصوليات بُدعة، والعلمنة زندقة، والعقل النقدي خروجا عن الملّة والأمة؟ وهل يمكن مقاربة أنموذجه التنويري إزاء مجريات التعقيد التي واجهتها حركات التجديد؟
أحسب أن تشوه قيم الحداثة وسوء قراءتها وتوظيفها يكشف عن أزمة النظام الاجتماعي، وعن أزمة المؤسسات، وأزمة السلطة، وهذا بطبيعة الحال يُلقي بظلاله على فهم الحداثة، وعلى علاقتها بتعقيد الأفكار ونُظم التعليم السائدة، والكشف عن تأثراتها بالتحولات الثقافية والحضارية الغربية عبر الترجمات وعبر وجود الجامعات والحريات والحقوق، وهذا ما يجعل مفهوم الحداثة جزءا من الفعالية التاريخية وليس خارجها، ولعلنا نذكر أن صدور الطبعة الأولى من كتاب طه حسين(في الشعر الجاهلي) يرتبط بوجود لطفي السيد الشخصية التنويرية والاصلاحية وعلى رأس المؤسسة الجامعية، كما أن موضوع أطروحة الدكتوراه (ذكرى أبي العلاء) أثار ضجة في الأوساط الدينية، وتَعرّض جرّاءها للاتهام بالمروق والزندقة والخروج على مبادئ الدين الحنيف، لكن الفضاء الثقافي والسياسي المدني كان هو القوة الحمائية التي خففت من غلواء المواقف إزاءه.
دراسة طه حسين العلوم الأزهرية والعلوم الحديثة في آن معا أعطته دافعا معرفيا لتبني الفكر التحليلي، وللتأثر بالمناهج والفلسفات الحديثة والإيمان بها، وهو ما انعكس على عمله التعليمي، وعمله البحثي، فكان استيزاره لوزارة المعارف عام 1950مدخلا لإشاعة التعليم العمومي في مصر، واعتبار التعليم ضروريا مثل الهواء والماء، مثلما كان عمله البحثي منذ بدايات القرن العشرين عاصفا في إثارة الكثير من الجدل والأسئلة، والمفارقة في النظر الى قضايا التاريخ الاشكالية..
كتاب طه حسين المثير للجدل "في الشعر الجاهلي" تحوّل الى أثر في النقد التاريخي لمثل تلك القضايا، إذ اعتمد على المبدأ الشكّي لديكارت، واجتهد في النظر اليه بوصفه شعرا منحولا، وأن أغلب قصائد هذا الشعر مكتوبة في العصر الاسلامي، ولا علاقة لها بالعصر الجاهلي. هذا الحكم كان جزءا من منهجية قراءته التحليلية للنصوص والأفكار والمجازات والصور، وهو ما أخضعه للمساءلة والتصويب من قبل العديد من علماء الأزهر والجامعة ومنهم مصطفى صادق الرافعي ومحمود شاكر، ويقصد إساءته للتاريخ، فتراجع عن الفقرات المثيرة للجدل، وغيّر من عنوان الكتاب الى (في الأدب الجاهلي)..
استعادة الحديث عن طه حسين- اليوم- يعني استعادة الحديث عن مأزق التحديث، وعن مأزق أبنية المجتمع الرثة، وعن ضرورة حيازة نظرة عميقة لقراءة خطاب الحداثة، ومقاربات التاريخ، والى قيم التعارض بينهما، فضلا عن وعي ضرورة تعالقهما بالأسئلة التي تخص قيم النقد والعقلانية، بما فيها نقد التاريخ، والحداثة ذاتها، وهذا ما أكسب خطابه المعرفي سمة الشجاعة، والقوة والصراحة، والتي أكدها عنه عباس محمود العقاد الذي قال فيه: إنه رجل جريء العقل مفطور على المناجزة، والتحدي فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافي بين القديم، والحديث من دائرته الضيقة التي كان عليها إلى مستوى أوسع وأرحب بكثير.
جرأة طه حسين وثقته بنظرته العلمية ومنهجه التحليلي، جعلته أكثر حيازة للشجاعة في مواجهة أزمات الجهل والتخلف، وأزمات الثقافة الرسمية، وضعف التعليم في الجامعة وفي المدارس الحكومية، وكذلك في النظر الى العلاقة مع ثقافة الآخر، والتي باتت مُخرجاتها تُعبّر عن جوهر المحنة التي يعيشها العقل العربي، إذ يعيش هذا العقل غربته العميقة، وخفّته أمام التاريخ السحري للماضي، ولرمزيته العصابية، ولعل كتاب طه حسين عن الفلسفة الاجتماعية عند بن خلدون يؤكد وعيه العميق لتمثلات العمران الثقافي التي أثارها بن خلدون في نظرته للعصبية، وللجماعة وللدولة..
كتب طه حسين في الرواية وفي النقد وفي البحث التاريخي والقانوني، وفي الدرس الاجتماعي، لكنه ظل في أعماقه أكثر تمثلا لثقافة العقل بوصفه القوة التي تحفّز على التفكير الحر، وعلى مواجهة التخلف بمسؤولية تلك الحرية، وبقدرة الانسان على تجاوز واقعه، واستشراف معطيات المستقبل من خلال تعزيز قيمة العقل وتمكينه من أن يكون الرائد والموجّه في النقد والتأسيس وفي النظر الى الوجود..
لحظتنا العراقية قد تكون أكثر استحقاقا لأسئلة التجديد، ولأطروحات وعي الحداثة، على مستوى مواجهة تحديات بناء الدولة، أو بناء المجتمع، أو التعاطي مع أزمات الهيمنات الكبرى، والتي ابتدأت مع هيمنة المعسكر، وهيمنة الايديولوجيا والحزب والقرابة والطائفة، وصولا الى هيمنة الجماعة، وكل هذه الهيمنات تفرض شروطها العصابية والقهرية على الاخرين، وهو ما يعني خلق السلطة " الهوية" سلطة الاستبداد والعنف والكراهية..
إزاء هذا المعطى تأخذ أطروحات طه حسين مسارا استفزازيا للعقل الجماعوي، وبما يجعل اسئلة التجديد أكثر تعبيرا عن الحاجة لتبني خطاب التحديث، والتعاطي مع مقاربات الحداثة بمسؤولية تتسق واللحظة التاريخية، إذ لا يمكن أن تكون عقلانية ديكارت الصارمة هي المقياس الذي نستعيره لمواجهة أزمة الواقع العراقي، لكنّ تلك العقلانية، ورغم قدامتها، تبقى مجالا لإبراز اهمية العقل في مواجهة الجهل الذي فرض سلطتها على المجتمع، عبر الاصوليات والخرافات، وعبر نمط اسلاموية النمط، تلك التي يختلط فيها الشعبوي مع الميثولوجيا، والماضي مع رمزية السلف، وهي اختلاطات رهنت العقل السياسي والعقل الاجتماعي، وحتى العقل الثقافي الى مركزيات انتجت مظاهر العنف والاستبداد، والذي خضع له العراقيون طوال عقود طويلة...

عرض مقالات: