في قلب النظام العالمي اليوم تهيمن قوى الرأسمال المالي التي صعدت من قلب التناقضات الكامنة في النظام الرأسمالي العالمي، فحين تبلورت أزمة التراكم الزائد، نتيجة نضوب قدرة الرأسمال على خلق توظيفات جديدة للفائض المتراكم من جهة، وتراجع الطلب النهائي الفعال من جهة أخرى نتيجة الضغط المستمر على الأجور وإفقار قوة العمل، أصبح هناك ميل لدى النظام لتوظيف فوائضه واستثمارها في أنشطة مالية تزايد ثقلها ليصبح القطاع المالي هو المهيمن والقائد على القاعدة الإنتاجية الرأسمالية. تلك الحقيقة التي يتسم بها عصر الرأسمالية المالية الاحتكارية هي القاعدة الاقتصادية أو القانون الاقتصادي لعصرنا.

والشاغل الأساسي للرأسمالية كطبقة عبر كل أطوار نموها، كان ولا زال، هو تعظيم أرباحها في المطلق، وفي مواجهة جملة من الظروف الموضوعية والذاتية التي تحكم تطور الرأسمالية ومصيرها، الرأسمال يسعى للربح، ولكي يستمر الربح لا بد من استمرار هيمنة الرأسمال. هذه الهيمنة ليست مجرد سيادة علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، أي أنها ليست مجرد هيمنة في مجال البناء التحتي، بل إن هيمنة الرأسمال في مجال الأبنية الفوقية يعد ضرورة بقائه مسألة حياة أو موت للرأسمالية، في زمن نشوئها، كما في طور أزمتها.

يعد صحيحاً تماماً خضوع كافة المستويات للقاعدة الاقتصادية، التي هي البناء التحتي كما نقول، لكن هذا الخضوع، أو اتجاه الهيمنة لا يمر في اتجاه واحد، بمعنى أنه بقدر ما يؤثر البناء التحتي في شكل الأبنية الفوقية، الأيديولوجيا والسياسة وشكل الحكم، فإن تلك قد أثبتت أنها لعبت وتلعب دوراً جوهرياً في مرور الرأسمالية من أزماتها الدورية وأزماتها البنيوية الناشئة من تناقضات مسارها التاريخي.

تهيمن الرأسمالية المالية في دول الثالوث الإمبريالي على العالم اقتصادياً عبر الوضع التاريخي الذي كفل لها اليد العليا على مقدرات الأرض إلا قليلاً، باستثناء فترات تاريخية نُوزِعت فيها الإمبريالية وحُرمت حق تقرير مسار التطور العالمي! من هذا الموقع المهيمن في مجال الإنتاج والفوائض، تهيمن الرأسمالية سياسياً على العالم من أجل: تأبيد هيمنتها الاقتصادية. إن السياسة هي تعبير مكثف عن الاقتصاد، أي أن السياسة في عالم اليوم هي هيمنة الرأسمالية المالية في مجال البناء الفوقي لأجل تأبيد هيمنتها في مجال البناء التحتي لحفظ مصالحها الطبقية، أي الانفراد بحل مسائلها التاريخية بالشكل الذي يحول دون صعود قوى طبقية أخرى تناوئها في السياسة من قاعدة مناوأتها في الاقتصاد، قوى تجد نفسها في تناقض كلي أو جزئي مع استمرار هذه الهيمنة الرأسمالية وتسعى للانخراط في السياسة من أجل كسب أرض صلبة في البناء التحتي تضع على المشروع الرأسمالي عبئاً إضافياً، أو تهدده من جذوره.

ويتخذ احتكار السياسة أشكالاً متعددة تختلف باختلاف الظروف التاريخية التي نشأت فيها الرأسمالية. فرأسمالية المركز الإمبريالي تحكم في إطار صيغة ديمقراطية شكلاً، قامت على رشوة قطاعات من الطبقة العاملة نتيجة الهامش الضخم من الفوائض التي تحصلت عليها تلك الرأسمالية من عملية النهب التاريخي للبلدان الطرفية. فقامت صيغة ديمقراطية شكلية على أساس تحييد تاريخي للطبقة العاملة وتخدير لوعيها وسلبها الوعي التاريخي الذي يمكنها من إدراك القناع الزائف الذي ترتديه برجوازيتها في استغلال قوة العمل العالمية وإن بدرجات متفاوتة. هذه الممارسة بالطبع تسفر عن أنيابها في أوقات كثيرة في قمع التحركات الجماهيرية في أوقات الأزمات الركودية والتضخم الذي يكشف عن القيح الطبقي لتلك المجتمعات. وفي هذا الإطار يعد صعود الفاشية في أوروبا تدليلاً على خضوع السياسة للاقتصاد، إن صعود الفاشية كان تاريخياً رد فعل الرأسمال على أزمته، إن الصعود الأخير للفاشية يأتي في إطار تباطؤ مزمن للاقتصاد العالمي، بلغ إحدى ذُراه بعد انفجار فقاعة الرهون العقارية في 2008.

ويعد من الضروري التأكيد أن سعي النظم الحاكمة للبقاء هو ميل طبقي برجوازي للبقاء في وضع هيمنة مستمرة على الإنتاج وهو ما يتطلب هيمنة مستمرة على السياسة، وتتجلى هذه الهيمنة بشكل أكثر في البلاد التي لم تصعد فيها البرجوازية في عملية تطور تاريخي مشابه لمسار صعود البرجوازيات الأوروبية مثلاً، فصعودها مرتبط بالنظام الرأسمالي الامبريالي الاستعماري الذي أغلق سبيل تطورها الحر عبر استيلائه على سوقها وتقزيم نموها، وبالتالي فإن صعودها لم يكن مدعوماً من قبل قطاعات من السكان ناصرتها في الصراع مع ملاك الأراضي، إنها نشأت منذ البداية في تناقض مع عموم جماهيرها. هذا الضعف البنيوي في تكوين البرجوازية الطرفية وسم ممارستها السياسية لإعادة خلق شروط بقائها، باعتبار أن هذا البقاء يعتمد أساساً على ارتباطها بالرأسمالية العالمية. هي الطرف السالب في علاقة لا متكافئة منذ البداية، فالقمم الرأسمالية العالمية قد وضعت الدولة في خدمة اقتصاد رأسمالي وصل في درجة تطوره إلى حد صارت الحروب جزءاً من استراتيجية مواجهة أزمته، وبالتوازي رهنت البرجوازيات الطرفية دولتها لاستدانة الفوائض من المركز وتحويل الريع الإمبريالي إلى رافد رئيسي للربح المتراكم في قمم الشمال.

وقد ترتب على هذه الوضعية اختلالات اجتماعية حادة في دول الأطراف، كانت إدارتها سياسياً تختلف باختلاف الظرف التاريخي الذي هو الوضع في بلاد المركز ودرجة اشتداد الأزمة، ولقد اتخذت الممارسة السياسة دوماً عنواناً رئيسياً: فعل كل ما هو ضروري لإبقاء وضع الدوران كترس في الاقتصاد العالمي، ومقاومة كل إمكانية لطرح بديل يقترح اتخاذ إجراءات تحفظية تكبح تصدير الأزمة من المركز للأطراف.

إذن، تنطوي السياسة اليوم على عناصر واضحة، حل مشكلة ميل معدل الربح للانخفاض، التي هي في جوهرها مشكلة تراكم زائد في طرف وتراكم سالب في طرف آخر، ولكي يتم هذا لا بد من ضمان السيطرة التي لا تُنازع للرأسمال المالي على مقاليد الاقتصاد، عبر احتكاره للسياسة بما يؤبد احتكاره المتزايد، أبداً، لنسبة تتزايد من ربح متراجع، ولإنجاز هذه المهمة لا بد من ابتكار شكل الهيمنة السياسية الذي يلائم كل درجة من درجات التطور التاريخي للأزمة، ويستجيب لحدتها بما يجعل نشوء معارضة في أي طرف من أطراف النظام العالمي أو مركز من مراكزه مستحيلاً تماماً. هذا التعقيم متعدد الأطوار للسياسة العالمية مع كل ما يبدو عليه من غطرسة، يخضع هو الآخر لحتمية، فالتناقض يتعمق، الركود يستفحل، التعافي الاقتصادي يصبح محدوداً وأكثر تباطؤاً بعد كل أزمة وهذا في حد ذاته يطرح شكوكاً عميقة حول قدرة البرجوازية على الهيمنة التي تبدو، أحياناً، توافقاً ديمقراطياً لكن هذا التوافق نفسه تدهسه عجلات الأزمة وتميط عنه اللثام ليتضح أن وراء الشكل الديمقراطي السياسي والشكل الاستبدادي، جوهر الأزمة العامة لطبقة صارت قدرتها على رتق ثقوب سفينتها متزايدة الكلفة وأقل فاعلية بما يطرح مستقبلاً مفتوحاً على كافة الاحتمالات وبقاء الهيمنة الرأسمالية هو أقلها احتمالية!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب ومترجم مصري

منصة “تقدم” – 26 كانون الثاني 2024

عرض مقالات: