كقاعدة راسخة فإن الكاتب الجيد هو بالضرورة قارئ جيد، فما بالنا حين يكون هذا الكاتب هو طه حسين بكل ما يمثله من وزن فكري وأدبي وتربوي وثقافي، وبما أضافه إلى ثقافتنا وأدبنا من إضافات نوعية، جعلت منه كاتباً حاضراً، لا في الزمن الذي عاشه، وإنما في زماننا أيضاً، وسيبقى كذلك في الأزمان القادمة، حتى لو اختلف حوله المختلفون، فاستمرار السجال حول ما كتب دليل على أهميته.

وما كان طه حسين، شخصاً ومؤلفات، سيكون ما كانه لولا أنه قارئ جيد، ولو خلنا أن للقراءة درجات، فإن طه حسين كان في أعلاها بالتأكيد، فهو القارئ الكاتب الذي يتمثل ما قرأه، ليصبح لبنات لما بناه من فكر وأبدعه من أدب، وهذا شأن الكتّاب الكبار مثله.

ضاعفت من أهمية طه حسين مثاقفته العميقة مع الفكر والأدب الفرنسيين، وما فتحه ذلك من نوافذ واسعة له على الثقافة العالمية، فأصبح أفقه أوسع من الكثيرين من مجايليه، ومع ذلك فإن هذا لم يدفع به، كما دفع بالكثيرين، إلى الانسلاخ عن ثقافته ولغته، ولا التبرؤ منها، هو المدرك لحقيقة أن قاعدة بنيان تكوينه الراسخة عربية، لساناً ومضموناً، وهذا ما يفسر لنا أن الرجل العائد من فرنسا بعدّته الأكاديمية الغنية ظلّ وفياً لهذا التكوين، ما عكسته كتبه المختلفة حول التاريخ العربي الإسلامي، ومن بينها كتابه «على هامش السيرة» الذي صدر في عدة أجزاء، وهو الكتاب الذي قدم فيه طه حسين نفسه بوصفه قارئاً بالدرجة الأولى، ناعتاً ما وضعه في هذا الكتاب بحصيلة ما قرأه.

في مقدمة «على هامش السيرة» قال طه حسين: «ليس في هذا الكتاب تكلّف ولا تصنّع، ولا محاولة للإجادة ولا اجتناب للتقصير، وإنما هو صورة يسيرة، طبيعية، صادقة لما أجد من الشعور حين أقرأ من هذه الكتب (يقصد الكتب القديمة) التي لا أعدل بها كتباً أخرى مهما تكن، والتي لا أملّ قراءتها والأنس إليها.. هذه صحف لم تُكتب للعلماء ولا للمؤرخين؛ لأني لم أرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ، وإنما هي صورة عرضت لي أثناء قراءتي للسيرة فأثبتُّها مسرعاً، ثم لم أرَ بنشرها بأساً، ولعلي رأيت في نشرها شيئاً من الخير؛ فهي تردُّ على الناس أطرافاً من الأدب القديم قد أفلتت منهم وامتنعت عليهم، فليس يقرؤها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة في الأدب العربي القديم، وإنك لتلتمس الذين يقرؤون ما كتب القدماء في السيرة وحديث العرب قبل الإسلام فلا تكاد تظفر بهم».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحيفة “الخليج” – 15 تشرين الأول 2023

عرض مقالات: