لم يزل الجدل قائماً حول إختيار يوم ما كعيد وطني لبلادنا، رغم القرار التنفيذي المتسرع والمفتقد للحكمة، الذي حدد هذا العيد بيوم قبول العراق عضواً في عصبة الأمم عام 1932. ويستمد الجدل ديمومته من عجز هذا القرارعن تحقيق الأهداف التي تتوخاها الشعوب من الإحتفاء بأعيادها الوطنية، كالتوحد حول مبادئ ومآثر مرتبطة بثقافة الشعب وأحلامه وتطلعاته للتقدم، أو إشاعة مفاهيم المواطنة والأخوة بين الناس، أو إذكاء روح مقاومة التخلف والعنف والتفرقة، وخلق وتعزيز مشاعر الولاء والإنتماء والتمسك بقيم التحرر، ناهيك عن عدم إرتباط اليوم الذي حددوه بأية خصوصية حقيقية في تاريخ الدولة العراقية الحديثة. فعادة ما يرتبط اليوم الوطني لأية أمة بمناسبة ما (أو أكثر) من تاريخها، تبقى مقيمة في الذاكرة الجمعية للناس، بسبب قيمتها المتمّيزة والمتمثلة بتحقيق عوامل ثلاثة، الحرية والعدالة والوحدة:
- حرية الناس وبلادهم وخلاصهم من أي شكل من أشكال التبعية والهيمنة الأجنبية.
- وسيادة العدالة بين الناس بشكليها المترابطين السياسي والاقتصادي.
- ووحدة أبناء الشعب المرتكزة على الإحساس بالإنتماء للبلاد والمشاركة المتكافئة في السلطة والثروة.
فهل حقق الثالث من تشرين الأول شيئاً من هذه العوامل، ليحل محل الرابع عشر من تموز، الذي سبق وكان عيداً وطنياً قبل أن تمزقه أنياب الذئاب الفاشية؟! الا تستحق ثورة 14 تموز، ونحن نحتفل بذكراها الستين، فتح حوار مجتمعي حول أي الأيام تستحق أن تكون عيداً وطنياً للبلاد، حواراً شاملاً وديمقراطياً، يشكل أساساً لتشريع نهائي يتفق الجميع على إعلاء رايته؟
لقد إرتبط يوم 14 تموز 1958 بقضية الحرية إرتباطاً وثيقاً وفي مفاصل عديدة، حيث أنجز الإستقلال السياسي للبلاد، وحررت من نير الأحلاف الإستعمارية التي كانت تدير عملياً السياسة الداخلية والخارجية بمختلف جوانبها، كحلف بغداد. وتم الإنسحاب من الكتلة الإسترلينية التي كانت تشترط إيداع كل واردات العراق من العملات الأجنبية في البنك المركزي البريطاني وتُمكّن الجنية الإسترليني من التحكم بقيمة الدينار، سالبة حق العراق في التحكم بعملته الوطنية. كما حرر قانون رقم 80 الثروات التي تحتويها الأراضي العراقية، من هيمنة الشركات الإحتكارية الإستعمارية التي طالما أغتصبت حقوق العراق، مما شكل أبرز مآثرة على طريق الإستقلال الاقتصادي وتأمين حق الناس في ثروات بلادهم. وإتسعت قضية الحرية أفقياً وعمودياً لتشمل الأغلبية الساحقة من العراقيين، فأطلق سراح السجناء السياسيين وسمح للمنفيين بالعودة لبلادهم وأعيدت الجنسية العراقية لمن أسقطت عنه لأسباب سياسية، وشرعت قوانين تنظم حرية العمل السياسي والنقابي والاجتماعي، وأجيزت عشرات النقابات والاتحادات والجمعيات وقدم لها الدعم المادي والمعنوي الذي يمكنها من خدمة منتسبيها وقيادة نشاطهم المهني الخاص والوطني العام.
وتعد سيادة العدالة بشقيها السياسي والاقتصادي، أبرز ما إتسم به يوم 14 تموز 1958، حيث تم الشروع بتنمية اقتصادية ذات جوهر إنساني منحاز لشكل مناسب من العدالة الاجتماعية، وسنت قوانين جديدة للضرائب، بغية توفير دخل أفضل للدولة يمكنها من تقديم الخدمات للناس وتقليل الفوارق الطبقية وتحقيق شيء من التكافل الاجتماعي، تمثل في تخفيض سعر الخبز وزيادة الأجور بنسبة 52 في المائة وفي تشييد أحياء عديدة لحل مشكلة سكن الموظفين والعمال، وتوفير مساكن حديثة للكادحين عبر بناء مدينتي الثورة والشعلة، وفي تخفيص أجور المساكن والمحلات الصغيرة، وبناء الاف المدارس والمراكز الصحية في المدينة والريف. وكان لإصدار قانون الإصلاح الزراعي وتحديد سقف الملكية الزراعية وإنهاء سيطرة 2803 شخص فقط على أكثر من نصف الأراضي الصالحة للزراعة، دور اساسي في تحقيق حلم ملايين الفلاحين المحرومين وإنهاء عزلتهم وتأمين إحساسهم بالإنتماء للعراق وجذبهم لساحة الفعل الوطني. والى جانب هذه الخدمات الكبيرة لكادحي البلاد وأبناء الطبقة الوسطى، سُنت القوانين التي تشجع على الإنتاج الصناعي وتنمي القطاع الخاص وتلبي مطامح البرجوازية الوطنية، وكان لإنشاء وزارة الصناعة والمصرف الصناعي ومجلس التخطيط دور مهم على هذا الصعيد.
وعمدت الدولة التي أسسها 14 تموز 1958، الى تعزيز الشعور بالمواطنة عبر خلق شكل حقيقي للمساواة بين المواطنين، فإختفت الطائفية والتعصب الديني والقومي، وتم ضمان افضل لمبدأ تكافؤ الفرص في التعليم والصحة والتوظيف والعمل وفي الحصول على الخدمات، إضافة الى سعي حثيث لدرء خطر الإنقسامات الداخلية على مستقبل البلاد وعلى مطمح الثورة في تنفيذ برامج تعزز الهوية الوطنية الجامعة. وكان الإعتراف بشراكة العرب والكرد في هذه البلاد الفقرة الأبرز في تلك البرامج. كما شكل الإعتراف بحقوق المرأة وإطلاق حرية التنظيم النسوي وسن قانون إنساني للأحوال الشخصية، يضمن المساواة بين المرأة والرجل، عملاً وطنياً باسلاً، فتح الطريق أمام زج نصف المجتمع في الحياة العامة وإستثمار طاقاته في البناء والتقدم وتعزيز إنتمائه لوطنه، قبل أن تفّرغ القوى المناهضة لإنسانية المرأة، القانون من محتوياته الاصيلة.
إن قراءة متأنية ومنصفة لما حققه 14 تموز 1958 من تغيير إيجابي جاد في حياة العراقيين، بمختلف مكوناتهم وطبقاتهم الاجتماعية، وتأمينه لإستقلال وطنهم ولحريتهم السياسية وتوفير مستوى معاشي لائق بهم، ومشاركة شبه متكافئة في السلطة والثروة، تظهر بجلاء سر ربط الذاكرة الجمعية للناس بين 14 تموز والإنتماء للوطن ولثقافته وماضيه وحاضره، بين 14 تموز ومساهمة الأغلبية الساحقة من العراقيين في الفعل الوطني العام وتمسكهم بمذاق تلك الأحداث العظيمة وبالقيم المشتركة فيها، مما يشكل أسساً تتحقق بها الأهداف المتوخاة من الإحتفاء بالعيد الوطني، إذا ما إعتمدنا 14 تموز يوما وطنياً للعراق.