التحقنا بجامعة الموصل عام 1971 وبعدها بكلية الزراعة في حمام العليل. كانت الأجواء السياسية خانقة جداً فقد شنت أجهزة البعث خلال سنتين من التحاقنا، حملة قمع فاشية ضد كل الطلبة المناوئين للحكم، وبشكل خاص الطلبة الديمقراطيين، من أعضاء اتحادنا العتيد. وكان استماع طالب ما لحديثك عن شعارات الاتحاد وسياساته ناهيك عن المشاركة فيها، يعد مجازفة كبيرة، قد تعرضه الى الاعتقال، لاسيما مع ما كانت تثيره المآسي التي يعيشها المعتقلون في قصر النهاية من أسى وخوف. في هذه الأجواء بدأت مجموعتنا الصغيرة، والقادمة من كل أرجاء الوطن، والمنتمية الى كل مكوناته (لم نكن حينها نعرف هذا التعبير بل ننتمي جميعا الى العراق) العمل لتأسيس فرع للاتحاد في الكلية، والتعريف به وببرامجه وتبني حقوق الطلبة والدفاع عنهم، شريطة الحفاظ على السرية وتجنب الوقوع في شراك الفاشست.
ويوما بعد آخر، تعززت مصداقية اتحادنا كنتاج لعملنا الدؤوب من أجل حل مشاكل الطلبة، كتوفير السكن للجميع في الأقسام الداخلية والاهتمام بنظافتها وتجهيزاتها، أو تحسين نوعية الطعام المقدم في مطعم الكلية وتخفيض أسعاره، أو تطوير المكتبة وتوفير المصادر العلمية والكتب بأسعار مناسبة، أو الاهتمام بالحياة الثقافية في أوقات الفراغ وبطاقات الطلبة وبمواهبهم. كنا ننهض في الصباح الباكر ونهرع الى محطة القطار لاستقبال الطلبة الجدد القادمين الى الكلية، والقيام بواجب الضيافة والمساعدة لهم وتعريفهم بالكلية ومرافقها المختلفة. كما كنا نتابع أي مشكلة يتعرض اليها أي طالب ونضغط بكل السبل لحلها.
في بدء العام الدراسي الثاني، قررت قيادة الاتحاد توسيع النشاط، والقيام بعمل علني، نتحدى فيه بطش البعثيين، وذلك بتوزيع بيان الاتحاد علنا في جميع أرجاء الجامعة وفي وقت واحد. ووقع الاختيار عليّ وعلى الأخ مصدق الشلاه للقيام بهذا العمل على أن يحمينا بشكل غير مباشر، وبدون أن يكشفوا عن أنفسهم، زميلان هما عزيز كوريا وإبراهيم إسماعيل. وتم تنفيذ النشاط بنجاح أكسبنا محبة وتعاطف الطلبة، لاسيما بعد تعرضنا الى اعتداءات وبلطجة ازلام البعث داخل الكلية وفي القطار الذي استقليناه في المساء لقضاء عطلة العيد بين عوائلنا.
اتسع نشاطنا كثيراً، وتعرضت أكثر من غيري ربما، الى اعتداءات البعثيين، بسبب تمثيلي الاتحاد علنا. كنا لا ندع مناسبة وطنية أو أممية تمر دون أن نحتفل بها، وكنا نوزع شعاراتنا ونعّرف باتحادنا في أوراق صغيرة نخبئها في قطع الحلوى، حتى صار تقديم أي طالب للحلوى لزميله كافيا لإثارة هلع البعثيين، الذين حين عجزوا عن تحجيم نشاطنا بأنفسهم، استنجدوا بجلاوزتهم في الأمن، فعمدوا يوما الى اعتقالنا وحلق شعرنا بحجة إننا (خنافس)، ومن المفارقة أن الشرطي كان مندهشاً وهو يحلق شعري القصير وأكثر دهشة حين راح يحلق شعر صديقي الأصلع! وأذكر مرة بأن سيارة الأمن تابعت سيارة الأجرة التي استقليناها للذهاب الى الموصل، حيث أنزلوني منها في منتصف الطريق واعتقلوني مدّعين للسائق بأني مهّرب. هذا السائق رفض أن أصعد في سيارته ثانية الا بعد أن افهمه صاحبي بأنني لست مهربا بل ناشط اتحادي، مما جعل السائق يخبر صاحبه قائلاً: يول هذا طالب يشتري چكليت ويوزعه ضد الحكومة، بس والله يول وكف بوجه الضابط وظل يجادلو تمام.
كنا نطالب بان يُعرض في قاعة كولبنكيان في الكلية، فن راق وهادف من أفلام ومسرحيات وغيرها. وفي أحد الأيام عٌرضت في القاعة افلام فاضحة، مما دفعني وعدد من زملائي الى الاعتراض ومناشدة الطلبة بترك القاعة، وحين استجابت الأغلبية لنا، جن جنون الجلاوزة وشنوا هجوما علينا وضربوني بشدة وبقيادة المعيد الفاشي نوفل الطالب. ورغم الآلام المبرحة، كنت أشعر بالغبطة لتعاطف طلبة الجامعة معنا بعد أن انتشر خبر رفضنا ما يمس قيم المجتمع العراقي بسوء. وكرد على هذا سعى البعثيون لتشويه سمعة زملائنا، واختلاق الأكاذيب ونشرها بين صفوف الطالبات، لكننا كنا وبهدوء نفضح ذلك، ونراقب أنفسنا كي لا نخطئ، ونبدي أقصى درجات الاحترام لأساتذتنا، بحيث انبرى عدد منهم، ممن كانوا مختلفين معنا في المواقف والأفكار، الى الدفاع عنا ومساعدتنا للخروج من المكائد التي كان البعثيون يختلقونها لنا، كالدكتور ساطع الراوي والدكتور عبدالله الفخري ناهيك عن الأساتذة التقدميين كالفقيد نور كاظم.