قبل عشر سنوات وصل اليميني المتطرف فكتور اوربان الى قمة السلطة في هنغاريا، وبهذه المناسبة اجرت جريدة "اليونغه فيلت" اليسارية الصادرة في برلين حوارا مطولا مع الاكاديمي والمؤرخ الماركسي الهنغاري توماس كرواس تناول فيه الطبيعة الاستبدادية للنظام، وتعامل المؤسسات الرسمية للاتحاد الأوربي حياله، وجوانب فكرية وتاريخية مهمة.في مايلي عرض لاهم ما طرحه كراوس بشأن احد نماذج صعود قوى اليمين المتطرف (النازيون الجدد) في اوربا الشرقية الى السلطة.

طبيعة نظام اوربان

النظام الحاكم في بودابست مثير للاهتمام، لانه يحكم السيطرة، لكنه يسمح بهامش شكلي لبعض الممارسات الديمقراطية، لارضاء مراكز القرار في اوربا الغربية. لهذا السبب ، يُسمح بمعارضة صغيرة من أي نوع، في وقت يدمر فيه صحف المعارضة المؤثرة. ويترك هياكل تعمل على طول حافة النظام. إن السلطوية الجديدة تذكرنا بفترة ما بين الحربين العالميتين، اي نظام الرئيس مكلوس هورثي ، الذي ظل حليفًا لهتلر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية تقريبا. وفكتور أوربان يعده رجل دولة عظيم.
هناك برلمان ، وهناك بعض الأحزاب ، ونوع من حرية التعبير ، وبعض حقوق التجمع ، وحق محدود في الإضراب. لكن في الواقع لا شيء من هذا يعمل لأن النظام يبقي كل شيء تحت السيطرة. فالماركسي لايسمح له بالظهور في وسائل الإعلام المركزية مثلا في التلفزيون العام ، حتى الليبرالي ليس لديه هذه الفرصة. كل شيء أحادي الجانب، ولكن ماكنة السلطة فاعلة وتحظى بقبول دولي.
من الصعب على الغرب فهم ما يحدث في هنغاريا ، فليس لديهم شيء للمقارنة ، ولا يعرفون تفاصيل التطور المجتمعي الخاص في أوروبا الشرقية في القرنين التاسع عشر والعشرين. إنهم لا يعرفون أن الليبراليين وعدوا الشعب، وبطريقة شعبوية بعد عام 1989 ، بنظام برجوازي، وسوقوا هذه الرغبة في الغرب. هناك اعتادوا على حقيقة أن نخبة السلطة الهنغارية تتحدثت باستمرار عن الديمقراطية البرجوازية واللحاق بالغرب، واعتمدوا هذه الإشارة، على ان كل شيء يسير بالإتجاه الصحيح. ولكن العكس كان هو الصحيح: كانت هناك تحولات درامية وفوضىى لا تصدق ، وانقسام عميق في المجتمع.
ابان الأزمة الاقتصادية عام 2008، أدرك الجميع أنه لا يمكن الحديث عن اللحاق بالغرب. مع ان الأزمة كشفت فقط عن التوترات الاجتماعية القائمة مرة أخرى. لكن تلك اللحظة كانت مهمة على الصعيد الاجتماعي والتاريخي. أدرك أوربان أنه لا توجد برجوازية ديمقراطية في هذا العالم شديد الأزمات. لا يوجد أحد هنا قادر على تأسيس ثقافة ديمقراطية. وبدلاً من هذه البرجوازية ، هناك نخبة السلطة فقط، فعمل على تشكيلها وربطها بشخصه. وهي تتألف من معارفه وأصدقائه وأقاربه ، وعلى سبيل المثال ، أصبح عامل تركيب الغاز الخاص به أغنى رجل في هنغاريا ، وابنته الشخصية الاهم في صناعة السياحة. أوربان هو سياسي يعي مصالح طبقته، وبفضل سياسته الإسكانية وقروضه الرخيصة ، منح البرجوازية الجديدة والطبقة الوسطى الجديدة مكانة اقتصادية مؤثرة وامتيازات جاذبة.
ومن أجل الحفاظ على نظام الفئات والشرائح المستفيدة والتابعة من ناحية، والتماسك ازاء الاضطرابات الاجتماعية من ناحية أخرى ، هناك حاجة إلى شرعنة إيديولوجية ، فكانت العودة الى قومية الاستبداد لفترة مابين الحربين التي تتناسب بشكل جيد مع هذه الحاجة. وهذا يتعارض ظاهريا مع الرأسمالية العالمية، ولكن هذه الطريقة هي الفاعلة في أوروبا الشرقية. إن الطبقة المتوسطة الصغيرة تقف بحزم خلف السلطة الجديدة. وفي الوقت نفسه ، يمكنها التماسك معً الطبقات الاجتماعية الأكثر حرمانًا واستغلالًا في الريف. إنهم يتقبلون غسيل المخ هذا، انعكاس لخوف رهيب من الإنزلاق الى بؤس مشابه لبؤس الرومان. بالمناسبة ، يمكننا أن نرى كيف تبدو هذه القومية في الذاكرة الرسمية لمعاهدة تريانون لعام 1920 ،التي تنازلت مملكة المجر بموجبهارسمياً عن ثلثي أراضيها ونصف السكان بعد الحرب العالمية الأولى.
والآن يمكن سماع مشتركات الخطاب القومي، التي كانت تحظى بشعبية كبيرة في سنوات ما بين الحربين: نحن الهنغاريون ملاحقون ومضطهدون ولا أحد يفهم معاناتنا الكبيرة. وليست هناك كلمة واحدة عن حقيقة أن الحكام الهنغاريون كانوا قد اضطهدوا بشكل رهيب الشعوب المجاورة لعدة قرون ، سواء السلوفاك أو الرومانيين أو غيرهم. لقد أعاد أوربان الشعور بتفوق الأمة الهنغارية السابق، لاعادة كتابة التاريخ ، يجري الانفاق بلا حساب، وتم إنشاء جهاز عملاق ، وشبكة من مؤسسات تهتم بالسياسات التاريخية. وتعمل هذه المدرسة الهورثية الجديدة على تزييف التاريخ ، الذي يدخل بعد ذلك الجامعات ، والمتاحف. وتنعكس هذه الشرعنة ألايديولوجية بتاثير محافظ على الواقع الإجتماعي. وتدعي هذه النخبة السلطوية أنها تجسد الأمة. والذين لا يشاركونها رؤيتها ليسوا جزءًا من الأمة. وهذا هو جوهر ما يسمى بـ"نظام التعاون الوطني" الذي أطلقه أوربان في البرلمان في 14 حزيران الحالي. وبموجبه لا يمكن للأمة ان تتجسد الا داخل هذا النظام.

هورثي

يتم اضفاء هالة من القدسية المصطنعة على هورثي، فيقال أنه دافع عن الثقافة المجرية والأمة وأوروبا والمسيحية. ويجري اخفاء مسؤوليته ليس فقط، عن مقتل 600 الف يهودي ، ولكن أيضًا عن 400 الف ضحية هنغارية خلال الحرب. وكذلك عن مشاركة القوات الهنغارية في جرائم الحرب على الاراضي السوفيتية، وبإشراف النازيين الألمان، خلال ثلاث سنوات مورست خلالها سياسة الارض المحروقة وإبادة الشعوب. ان من يقرأ رسائل هورثي الى هتلر يشعر بالغثيان.لقد كان يصفه باستمرار بالصديق الكبير. إنهم يريدون بواسطة التقديس المفتعل التستر على كل ما ذكر. في الوقت الذي يتعين على هنغاريا تحمل مسؤولية دعم ألمانيا النازية كحليف، كان يجب أن يقال إن هورثي هاجم الاتحاد السوفييتي دون "طلب" من ألمانيا النازية ، وشارك قوات الاحتلال النازية في حرب الإبادة الجماعية التي طالت كل المجموعات السكانية.

المعارضة

المعارضة التقليدية تعارض النظام بذات العقلية وتريد ان تأخذ حصتها من الدعاية المرتبطة بمعاهدة تريانون. وتخضع للروح القومية، وتتحدث عن قومية جيدة واخرى محافظة وسيئة . ويمتد ذلك إلى عمدة بودابست الليبرالي ، الذي يتحدث بمناسبة معاهدة تريانون عن المعاناة التي تعرض لها الهنغاريون فقط، وهذا الأمرر عفا عليه الزمن تمامًا. وعندما نتحدث كيسار عن مجتمع في عهد هورثي، نتحدث عن الفقر المدقع، لهذا قيل حينها أن هنغاريا أرض 3 مليون متسول. لقد كان نظام كبار مالكي الأراضي الأرستقراطيين، الذين ورثوا الإمتيازات بالولادة، والذين دمروا هنغاريا التقدمية ممثلة بجمهورية المجالس21 ( اذار - 1 آب 1919).
ما يربط المعارضة الليبرالية بمعسكر الحكومة هو السعي المشترك للحفاظ على نظام سلطة الطغمة. والخلاف بين الفريقين يتمحور حول من هي البرجوازية الجديدة، ومن له الحق في الدخول في دائرتها. والنقطة الأخرى حاجتهم المشتركة إلى التحريض المعادي للشيوعية ، ويتضح هذا الأمر بشكل خاص من خلال الموقف المشترك من التجربة الاشتراكية السابقة، على الرغم من ان النظام الاشتراكي قدم في الحقلين الإقتصادي والإجتماعي افضل كثيرا من الراسمالية التي حكمت البلاد بعد انهيار التجربة الاشتراكية. ولهذا يحتاجون الى ماكنة اديولوجية وتاريخية وجهاز حزبي، ليثبتوا العكس، مدعيين ان نظام هورثي ، ذو الممارسات الفاشية، كان أكثر ديمقراطية من الاشتراكية، لوجود "تعددية" حزبية شكلية. ولكنهم لا يشيرون الى حقيقة ان في ذلك العهد قدم الشعب الهنغاري مليون ضحية. ويتطرفون في دعايتهم لتشويه سنوات الحكم الاشتراكي 1956-1988، بزعامة سكرتير حزب العمال الاشتراكي يانوش كادار. على الرغم من ان نصف السكان ، الذي يمتد حتى إلى ناخبي أوربان ، يعرفون جيدا أن عهد كادار كانت أفضل. ولهذا السبب ، تتكثف الدعاية ويجرم الماضي الاشتراكي.
قضية اخرى هو الموقف المعادي لروسيا، والذي يستند الى تاجيج المشاعر القومية، وتقديم الغرب الذي يحترم قيم المسيحية في مواجهة الشرق البربري، وكأن معظم الروس ليسوا مسيحيين.
مايحسب للمعارضة الليبرالية هو عدم تبني سياسة الحكومة في معاداة السامية والاجانب. والغرباء هنا هم ليس الغجر فقط، الذين يعيشون في البلاد منذ قرون . وعندما يجري الحديث عن الغرباء في اوساط الحكومة، فالمقصود اليهود والأجانب عموما. واذا ارادوا الحديث عن نظام هورثي بغموض، فانهم يشككون في محارق الابادة الجماعية النازية. لقد احيوا التقاليد النازية في سنوات ماقبل 1945 ، فنقاد النظام هم شيوعيون ويهود.
من الواضح ان المعارضة اليسارية في هنغاريا تعاني من مشاكل جدية، وهي تتوزع بين احزاب ومجاميع صغيرة محدودة التاثير. وما تبقى من حزب العمال الاشتراكي الذي قاد التجربة الاشتراكية انقسم الى تيارين الأول يعاني من جمود عقائدي ومشدود للماضي، ويدور في فلك الاحزاب التي تشاركه منهجيته، والثاني هو "حزب العمل الهنغاري 2006 "، الذي يشارك توماس كراوس تحليله، وهو حزب صغير يسعى للتجديد وينشط في اطار حزب اليسار الأوربي.

عرض مقالات: