ما أن اشتد عود الدعوة الجديدة – الاسلام – في الجزيرة العربية، حتى سارع اتباع الدين الجديد الى سحب البساط من أيدي السلطة التجارية في مكة، فكان تهشيم الاصنام / الالهة محاولة اولى للقضاء على الخرافة التي فرضتها السلطة التجارية الحاكمة وبواسطتها كانت تتحكم برقاب فقراء الجزيرة بالتواطؤ مع زعماء القبائل، الذين رهنوا أصنامهم / آلهتهم في الكعبة، واتفقوا مع السلطة التجارية في مكة ان تكون هي الحامية للأصنام مقابل حماية طرق تجارتهم والسماح لهم بأداء طقوس العبادة في الكعبة. وتوفير أهم مطلب للحجيج ، ماء زمزم .

اما الخطوة التالية التي ضربت السلطة السياسية / التجارية في مكة فهي شن حرب عصابات – غارات / غزوات – على قوافل مكة التجارية، تلك الغارات او الغزوات، لم تكن بحاجة الى جيش كبير وانما لعدد محدود من المقاتلين والمهاجمين يسيطرون على القافلة وينهبونها، وتلك كانت الخطوة التي اجهزت على عصب السلطة التجارية فأجبرتها على الخضوع فيما بعد الى شروط الدين الجديد الذي كان يهدف الى القضاء على خرافة الاصنام / الالهة التي بواسطتها كان يتم خداع الناس والسيطرة على عقولهم ، ولكن سادة الدين الجديد - الاسلام - لم تكن لديهم رؤية أبعد من مفاهيم عصرهم، فرغم رفضهم لخرافة الاصنام / الالهة الا أنهم لم يعثروا على بديل عن الطقوس والشعائر التي كانت القبائل تمارسها في البيت القديم : مكة ، لذلك استمروا عليها على أمل تغييرها في المستقبل، وينسب الى أحد الخلفاء الراشدين تردده في الطواف حول الحجر الاسود، لأنه شعيرة جاهلية، وهو محق في ذلك ولكن لم يكن بإمكانه اختراع بديل عن هذه الشعائر التي أدمن عليها الناس .

التاريخ والروايات المزورة

تحفل كتب التاريخ بروايات مزورة وأكاذيب لا أول لها ولا آخر، أسبغت الفضائل على من تريد وجردت من تشاء منها. زورت الاحداث وكذبت على الرموز، فأصبح من السائد والمعروف نسبة فضيلة لشخص وفي الوقت نفسه تنسب لعدوه، وقبيلة قريش التي حكمت باسم اللات والعزى ومناة قبل الاسلام استمرت تحكم ايضا باسم الدين الجديد: الاسلام، حتى تفاقم فيما بعد الخلاف بين القبائل المهاجرة وقبائل مكة وهو ما عرف بالخلاف بين الاوس والخزرج.

استطاعت السلطة الجديدة التي ورثتها قريش من النبي (ص) الاستمرار بالحكم على أسس العصبية القبلية التي كانت شائعة في الجزيرة العربية، وثبتت أركان سلطتها القبلية والتحكم بالقبائل العربية بقوة السيف وتعاليم الدين الجديد، وأكثر الاعمال عنفا وشراسة التي قادتها قريش ضد القبائل العربية في الجزيرة كانت حروب الردة التي شنتها على القبائل التي تمردت ورفضت دفع الزكاة - الضريبة - الى قبيلة قريش في مكة بعد وفاة النبي محمد (ص).

الاسلام والخرافة

حاول الاسلام التخلص من خرافات الجاهلية، الغيبية الساذجة، التي كانت شائعة بين الناس بسبب الجهل بالظواهر الطبيعية، حتى ان القران الكريم لجأ الى التعامل مع هذه الظواهر في محاولة لتفسيرها بما يخالف الشائع لدى الناس، فعلى سبيل المثال نجد العديد من الآيات تتحدث عن النجوم والشمس والقمر، والجبال والزلازل: إذا زلزلت الارض زلزالها، إذا الشمس كورت، والشمس تجري لمستقر لها، إذا الصبح تنفس .... الخ.

حاول القران الكريم شرح الظواهر الفلكية التي كانت تحير الانسان وعجز عن سبر أغوارها لقلة معارفه العلمية، فعلى سبيل المثال قوله سبحانه وتعالي عن الجبال : وَجعلنا في الارضِ رواسيَ أن تميدَ بهم (سورة الانبياء) أي ان الجبال وجدت على الارض كي لا تميد، أي لا تتحرك، فهي - الجبال - تعمل على تثبيت الارض وتحول دون حركتها، وهو تفسير عقلاني في تلك المرحلة يمثل إجابة مقنعة عن تساؤل الانسان عن سبب وجود الجبال، وكذلك عن النجوم فهي مصابيح تزين السماء : وَلـقـدْ زَيَّنا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمَصَابيحَ وَجَعَلناها رُجومًا لِلشّـياطينِ (سورة الملك).

وعن الجن- الكائنات اللامرئية - التي تلهب خيال العربي في الصحراء، يصف القرآن الكريم الجن بأنهم اقوام وقبائل، بعث الله لهم رسله. جاء في سورة الانعام: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي.

وكذلك عن خلق الكائنات مثل: الا ينظرونَ الى الابلِ كيفَ خُلقت (سورة الغاشية).

فإيمان عرب الجزيرة بالجن مثلا كان أفضل بديل لهم عن العلم، بواسطته يفسرون الكثير من الظواهر الطبيعية والنفسية، فالإنسان البارع أو العبقري أو العاشق لا بد أن يكون مصابا بمـس من الجن. وإحدى الظواهر الصحراوية التي كشفها علم الانواء الجوية، هو ما يحدث في الصحراء في بعض الاحيان من أصوات وموسيقى وأشباح ترقص وتغني في مفازات صحراوية.

كان العرب يعتقدون انهم الجن يرقصون ويغنون ويحتفلون، وما كشفه العلم أن أشعة الشمس الحارة في الصحراء تنتج تخلخلا في الرياح ، وحركة الرياح تولد أصواتا قوية فيها صفير ونشيج ...أصوات ناتجة عن تخلخل الهواء بسبب ارتفاع درجات الحرارة، كما ان اشعة الشمس تتحلل بسبب وجود ذرات الرمال في الهواء ما يجعلها كالموشور الزجاجي الذي يحلل ضوء الشمس الى أطيافه المعروفة، وهي سبعة الوان اساسية، فتبدو اشباح على هيئة كائنات ومخلوقات وحيوانات واشجار، حسب الحالة، وهذه الالوان التي تبدو وكأنها اشباح تتراقص بسبب حركة الرياح تتموج يمينا وشمالا، هبوطا وصعودا ... الخ.

كما كشف العلم سر السراب الذي يتكون في الصحراء أيضا، وهو ظاهرة ضوئية تحدث بسبب أشعة الشمس.. وقس على ذلك من ظواهر أخرى. لذلك كان للجن وقصص السعالى والاشباح مجال خصب في بيئة لا تعرف العلوم التي تبدد لها هذه المعميات.

ولكن السلطات الحاكمة ، التي توالت على رقاب المسلمين سواء في الجزيرة العربية أو في الولايات والبلدان والامصار المفتوحة، حاولت الاستفادة من الشعائر والطقوس الجاهلية والخرافات وقصص الجن التي ظلت سارية المفعول بعد ظهور الاسلام، ولم يستطع الاسلام حذفها من الحياة الدينية لقبائل الجزيرة،  فأخذوا يستثمرون هذه الطقوس في العودة الى ما قبل الاسلام والاستفادة من الخرافات الجاهلية والاساطير التي أوردها القرآن الكريم كأمثلة (أنظر سورة الجن ) وغير ذلك مما ورد في الحديث وما تم تلفيقه من أحاديث على لسان النبي (ص) أو على لسان الصحابة، فاغرقوا العقل العربي / الاسلامي بخرافات الجاهلية، ما كان منها معروفا وما زادوا عليه من خرافات الشعوب التي دخلت الاسلام فيما بعد وهي شعوب غنية في تراثها القصصي والمسرحي، مثل الفرس والروم ، وعلى الاخص أساطير وقصص الديانة الزرادشتية واليهودية والمسيحية، حتى أن الكثير من القصص والخرافات والحكايات تنسب لشخص يهودي يدعى ابن سبأ، يزعمون  انه يهودي ادعى الاسلام وجاء بالأباطيل كي يهدم اركان الاسلام، والحقيقة هي ان السلطات السياسية المتوالية كانت حريصة على تجهيل المواطن المسلم  لتتمكن من اخضاعه وتسييره كما يحلو لها، فكانت الخلافة الاموية والعباسية والفاطمية والايوبية وفيما بعد العثمانية والصفوية تمعن في اختلاق الاحاديث والخرافات وتنسبها للسلف الصالح ، وللأولياء والانبياء والصحابة ولم يسلم حتى النبي محمد (ص) من تدليس الاحاديث، فنسبوا له مئات الاحاديث غير القابلة للتصديق، ولنا في الكثير مما جاء منقولا عن أبي هريرة والبخاري وآخرين خير دليل على كثرة التلفيق وقوة سياسة التجهيل التي تبناها الخلفاء والسلاطين الذين استخدموا الاسلام والخرافات الجاهلية أفضل استخدام ، لذلك نجد السلطات والحكومات في العالم الاسلامي، أشاعت في كتب التعليم التي انتشرت بعد ظهور المدارس الحديثة اوائل القرن العشرين، قصصا وخرافات الجاهلية وتاريخ الحروب والفتوحات وصراعات المماليك وغير ذلك مما لا يقدم أية خدمة للعقل العربي / الاسلامي ، بل يمعن في زيادة جهله وتعميده في دوامة العنف والقسوة.

حلم النجاة من فخ الخرافة

استمرت سياسة التجهيل واللجوء الى الخرافة كوسيلة فعالة مفيدة للسلطة، فكانت على سبيل المثال تخترع الاضرحة للأنبياء والاولياء والصالحين حتى امتلأ العراق بالأضرحة والمعابد والمساجد والكنائس وبيوت التوراة – ازيلت بعد تهجير اليهود من العراق – وقلما ترى قرية أو مدينة أو بلدة أو ناحية أو مفازة صحراوية لا يوجد فيها نبي أو امام أو ولي صالح وغير ذلك من القبور التي يجتمع حولها الدراويش وأدعياء الدين في محاولة لابتزاز المواطنين وسلب أموالهم بالخداع والكذب والويل والثبور من عواقب الآخرة وعقاب الله الواحد القهار الذي ينزل أشـد العقاب بمن يخالف ما يريده الولي الصالح أو الامام أو السيد أو القـيّم على قبر أو ضريح أحد الاولياء المعروفين أو المجهولين .

وهكذا سقط العقل العربي / الاسلامي في فخ الخرافة الجاهلية وأخذ يعتاش عليها ويتناقلها وينقلها لأبنائه واحفاده.

ولما كانت الخرافة قيدا ثقيلا على الفكر، ولاستمرار تأثيرها لقرون ، أصبح العقل العربي / الاسلامي مكبلا ، مقيدا ، لا يستطيع تحرير نفسه، والقليل الذي استطاع التحرر من قيود الخرافة في العصر الحديث هم من حصلوا على فرصة التأثر بثقافات اخرى خارج نطاق المحيط العربي / الاسلامي، ومن مشاهير من تفتحت عقولهم بعد احتكاكهم بالثقافة الغربية الفقيه رفاعة الطهطاوي الذي تأثر في ما رآه في فرنسا فألف كتابا بهذا الشأن بعنوان (تخليص الابريز في تلخيص باريز) ، والشاعر الفيلسوف الزهاوي الذي تأثر بالثقافة الغربية عن طريق تركيا وهو أشهر أنصار السفور في العراق، و المفكر طه حسين الذي درس وتعلم في فرنسا ولذلك تعرض في وقت مبكر الى العقاب في محاكمة القرن بسبب كتابه الشعر الجاهلي، فأجبرته السلطات الفقهية على التنازل عن آرائه وتغيير عنوان كتابه بعد حذف فصول منه الى كتاب في الادب الجاهلي .

اما تاريخيا، فان أغلب الذين حاولوا الخروج على ثقافة الخرافة العربية الاسلامية مثل المعتزلة وابن رشد تعرضوا الى اضطهاد كبير تمثل بحرق كتبهم وقتلهم، كما اضطر آخرون الى الاختفاء عن المشهد الثقافي العلني مثل اخوان الصفا وخلان الوفا.

الخلاصة

إن حلم الخلاص من سلطة الخرافة سيتحقق متى ما فهمنا واستوعبنا ثقافات العالم المتنوعة واستندنا الى العلوم التجريبية واتخذنا من العلم قبلة نهتدي بها في فهم ما يدور من حولنا وآمنا بان العلم نور نقتدي به، وهو الذي يقودنا الى طرق السماوات والارض لا الخرافات.

ولذلك قالوا: اطلبوا العلم ولو بالصين

عرض مقالات: