افرزت الحرب بين روسيا واوكرانيا الكثير مما يمكن ان نسميه " فوضى المفاهيم " التي طغت على مواقف مختلف الأوساط في ارجاء المعمورة، وما يهمنا هو مستوى التشظي والتشتت والتقاطع الذي عم اليسار أحزابا وتيارات وشخصيات، وما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك التشتت بالرغم من استناد اليسار - كما يفترض - إلى التفسير المادي للتاريخ ومنهجه الذي وصفه لينين بانه "مذهب كلي الجبروت يعطي الناس مفهوما عن العالم، ولا يتفق مع أي ضرب من الأوهام".

في ظل هذه اللوحة الشائكة والمعقدة، لعلنا نجد في بعض الأسئلة طريقا سالكة للوصول إلى ما يمكن تسميته خارطة طريق تتوحد حولها نضالات اليسار من اجل تجاوز الرأسمالية والمآلات المأساوية التي أوصلت البشرية اليها.

فهل تمكن اليسار من وضع مفهوم محدد وواضح لليسار يساعده على تمييز حلفائه من غيرهم؟ وهل تمكن اليسار، مفكرين واحزابا، من وضع نظرية في الممارسة السياسية تقود إلى تحليل الظواهر على المستوى النظري، وتوفر الأدوات الضرورية في النضال اليومي؟ وهل استغراق اليسار في ما هو خاص ومحلي، أعاق تحقيق مهمة توحيد اليسار على مستوى ما هو عام ومشترك؟  الا تحفز حالة الارتباك التي سادت صفوف اليسار في الموقف من الحرب الدائرة في اوكرانيا، مفكري اليسار على ضرورة المبادرة لجهد فكري مبدع من اجل انتاج معرفة جديدة تساعد اليسار في تحقيق فهم أعمق للصراعات بين رأسماليات متصارعة، من اجل إعادة تقسيم العالم عبر حروب إقليمية وليس عبر حرب عالمية؟ هل تمكن اليسار من إيجاد بدائل لوسائل العنف والسيطرة التي اعتمدتها الرأسمالية في اخضاع المجتمعات؟ وهل يستطيع اليسار توفير القناعة للجماهير بانه قادر على تحقيق الديمقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية؟ هل استفاد اليسار من النتائج التي تمخضت عن الحربين العالميتين الأولى والثانية؟ وهل درس بعمق عوامل صعود الفاشية بين الحربين وحجم الخسائر الجسيمة التي سببها هذا الصعود للحركات الاشتراكية؟ وهل تهيأ بشكل جيد لصعود الفاشيين الجدد في أوروبا وخارجها؟ بعد انهيار التجربة في الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الشرقية هل توحدت جهود اليسار للخروج باستنتاجات مشتركة؟ ام تعمقت الشقاقات بين أطراف اليسار بسبب سيادة روح الياس والإحباط؟  وهل مازالت الاشتراكية ضرورية؟ هل فكرة تجاوز الرأسمالية ما زالت تحتفظ بحيويتها؟ ما مصير البلدان المتخلفة التي صنعها النظام العالمي وتقسيم العمل الدولي الكلاسيكي والمعاصر؟ وهل أنتج الفكر اليساري في بلدان الأطراف معرفة اجمع عليها اليسار في تحليل ظاهرة التخلف، لتحديد أساليب وطرائق نضاله؟ ما علاقة الاشتراكية بالديمقراطية التي شوهتها تجربة ما سمي بالاشتراكية الفعلية؟ ظهرت مجموعة اراء واليات بصدد إيجاد بدائل مستندة إلى تحليلات مفكرين يساريين عديدين، فهل ابدى اليسار اهتماما جديا بهذه الأفكار والتكتيكات؟ مثل: الكتلة التاريخية ومعارك الحركة والخنادق والمثقف العضوي، وماركسية الجماهير والوعي النقدي والوعي العفوي " الحس السليم والحس المشترك " لغرامشي، التحالف الشعبي لسمير امين، علاقة الكولنيالية بظاهرة التخلف في بلدان الأطراف لمهدي عامل، اختراق الجهاز الأيديولوجي الرأسمالي لسانتياغو كاريللو؟ وهل توقف اليسار امام مجموعة الآراء التي طرحها مفكرون كبار أمثال أريك هوبزباوم، تشومسكي، كريم مروة، حسين مروة، ومليبلاند واخرون؟  تعرض النظام الدولي إلى تغييرات عديدة ومتسارعة أحيانا، واتسعت التمايزات الطبقية بأرقام مذهلة عن نسبة الفقر والامية والجريمة المنظمة واتساع تجارة المخدرات والجنس فهل وضع اليسار خطة لنظام دولي بديل يضع حدا للتردي والانحدار الاجتماعي والانهيار في المنظومات القيمية للمجتمع البشري؟ إذا كانت النصوص الكلاسيكية لرواد الحركة الاشتراكية لا تساعد على تحليل المتغيرات الهائلة في بلدان المركز الرأسمالي او بلدان الأطراف فهل الجهود التي بذلها مفكرو اليسار بعد الحرب العالمية الثانية تتناسب مع حجم وسرعة المتغيرات المعاصرة؟ وهل خرجوا على المستوى النظري المجرد او مستوى ممارسة السياسة بنظريات ساعدت اليسار على توحيد الرؤى تجاه تلك المتغيرات؟ 

اليسار يواجه ظروفا معقدة في كفاحه اليومي في بلدان المركز الرأسمالي. فالرأسمالية ومنذ انطلاقها تمتلك سلاحين لفرض سطوتها على المجتمعات التي تقودها؛ السلاح الأول هو السيطرة والعنف والاستبداد واستخدام القوة في اخضاع الناس لسياساتها، والسلاح الثاني هو الهيمنة عبر استعباد واستلاب الانسان في مجتمع التقنية ليس عن طريق السيطرة والقمع البوليسي وانما من خلال الجهاز الإعلامي الضخم الذي تسيطر عليه، ومن الوسائل المرئية والمسموعة لتزييف الوعي، وصنع المجتمع والانسان ذي البعد الواحد، الذي يقر بالأمر الواقع كوضع أمثل لا بديل له. وتتحول منجزات العلوم والتكنولوجيا إلى أدوات هيمنة مضافة وفعالة. وفي بلدان الأطراف يواجه اليسار ظروفا أصعب منها في بلدان المركز حيث تلعب الدكتاتوريات وحكومات الاستعباد إضافة إلى الفكر الديني والعادات والتقاليد البالية والشعوذة دورا كبيرا في تدني الوعي لدى الجماهير، ما يضيف إلى نشاط اليسار هناك صعوبات جما.

انتبه الرفيق فهد مبكرا إلى ان " الاستعمار في قطر واحد لا يمثل مصالح دولة استعمارية واحدة، بل المصالح الاستعمارية كافة " وان " اس الاستعمار اقتصادي لكنه يعتمد على القوة السياسية الغاشمة عسكريا واداريا ...دفاعا عن مصالحه " فالاستعمار عدو جبار عنيد مسلح من اسفله إلى قمته، لا تفيد معه أساليب النضال القديمة ولا يفيد معه الصراخ والعويل، فعلى الشعب وعلى منظماته ... التحرر والانفلات من انيابه السياسية ومخالبه الاقتصادية " من خلال " جذب الأكثرية الساحقة من الشعب وزجها في المعركة”. ولو تعمقنا ودققنا في هذه النصوص التي قالها الرفيق فهد بعد الحرب العالمية الثانية، لوجدناها تصلح كخارطة طريق لممارسة النظرية في ظل عصر العولمة الذي ظهرت بداياته بعد حوالي أربعين عاما من استشهاد الرفيق فهد. اذ تحول العالم إلى " قرية صغيرة " يديرها الرأسمال العالمي بواسطة " المجتمع السياسي " وهو الدولة الرأسمالية العالمية ممثلة بالشركات العالمية الكبرى والمنظمات الاقتصادية الدولية التي شكلت البناء الفوقي الذي يتحكم بالسياسات الاقتصادية ويقرر مصائر واتجاهات الكرة الأرضية تحت اشراف الولايات المتحدة الامريكية راعية مصالح الرأسمال العالمي.

اعتمدت نظرية ماركس في السياسة على كيفية الانقضاض على النظام الرأسمالي كخطوة أولى لتغيير العالم، أي البحث عن الوسائل التي تساعد على تحويل المنجز النظري في حقل الفلسفة والاقتصاد إلى واقع يعيشه المواطن في ظل الانتقال الكيفي من الرأسمالية كتشكيلة اقتصادية اجتماعية إلى الاشتراكية كخطوة أولى نحو التشكيلة الشيوعية. وهو بهذا التحليل العميق حول الفلسفة من برجها النظري التأملي المجرد إلى مهمتها الجوهرية في التغيير، فتحولت الاشتراكية كما يقول لينين من " طوباوية إلى علم " وفتحت الباب امام البروليتاريا باعتبارها القوة الاجتماعية المؤهلة لبناء عالم خال من الاستغلال، ويشترك معها طيف واسع من الشرائح والفئات الاجتماعية المتضررة التي تنتقل من مواقع تبرير بشاعات الرأسمالية إلى مواقع الهجوم عليها.  ان ماركس " هو اول من ادخل مفهوم الممارسة في نظرية المعرفة”، فأصبح النشاط النظري مترابطا مع الممارسة والنشاط المباشر الذي يمارسه الانسان على بيئته، ومن خلال ذلك التفاعل بين النظرية والتطبيق تتكشف صحة المعرفة. وربط ماركس قانون التوافق الضروري بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج وبين مرحلة " افول الرأسمالية " التي حاول الكثير من المفكرين نفيها وامتهانها أحيانا انطلاقا من مظاهر الرفاه الاجتماعي التي تعيشها بعض المجتمعات الرأسمالية، واعتبر التطور الهائل للقوى المنتجة في المجتمعات الرأسمالية الأكثر تقدما هي المؤهلة تاريخيا على تجاوز نفسها للانتقال إلى الاشتراكية. وبهذا المنظور تكون " نهاية التاريخ " و "نهاية الحروب المدمرة " و " نهاية الاستغلال " و" نهاية التمايزات الاجتماعية والعنصرية " مرتبطة بدور اليسار في رسم معالم مستقبل البشرية.

في المقالة القادمة سنحاول الإجابة على الأسئلة السابقة وعرض أفكار بصدد نظرية ممارسة لليسار العالمي تعتمد المشتركات في نضال اليسار بكافة اجنحته سواء في بلدان المركز ام في بلدان الأطراف اخذين بنظر الاعتبار اغلب ما طرحه مفكرو اليسار من اراء وخطط، لتكون في النهاية ورقة عمل مفتوحة للنقاش امام جميع المهتمين بقضايا اليسار.       

عرض مقالات: