5 حزيران 1987 ليلة اخرى من الليالي الهمجية!

كتب العديد من الانصار واخرهم الرفيق ابو نسرين عن تلك الجريمة الكبرى التي تركت اثارها الجسدية والنفسية حتى يومنا هذا، فمشاهدها المأساوية وهواجسها السوداء وعلى الرغم من المسافة الزمنية الطويلة مازالت محفورة في الذاكرة حتى اصبحت جزءا من تاريخنا الحزين.

في منتصف شهر مايس تقريبا، تحركت مفرزتنا التي رافقت الفقيد (ابو عامل) من (كَلي خوى كورك) باتجاه مقر قيادة قاطع بهدينان، كان الجو ينذر بعاصفة ثلجية، لذلك اضطر آمر المفرزة ان يعيد الفقيد (رحيم عجينة) الى المقر بسبب وضعه الصحي.

سلكنا الطريق الذي يقطع (كَلي ره ش) ومعناه (الوادي المظلم)، ليس فقط لعمقه وكثافة اشجاره وصخوره، وانما لما يسببه من تدهور في المزاج لمجرد المرور به.

وصلنا الى (روبار عادل بك) قبل المغرب، وبعد ان تناولنا عشاء المعلبات بدأنا بالعبور، كان تيار النهر جارفا ومخيفا ولا يمكن عبوره الاّ بالحبال، وبدون ان اخوض بالمتاعب التي واجهتنا اثناء العبور، لابد ان اقول بان المسافة من النهر حتى قرية (زيتا) لا تتجاوز الساعتين في الظروف الاعتيادية، بينما استغرقت منّا اكثر من ثمان ساعات.

كنا نسير في منطقة خطرة، وليس فيها ملاذات آمنة يمكن اللجوء اليها، لذلك علينا ان نواصل المشي قبل ان نموت تحت الثلج الذي غطى جميع معالم الطريق ولم يبق منه اي اثر، فنال منّا التعب والجوع، وتجمدت الاطراف، وتشتتت الاذهان، وغاص البرد في العظام، فكانت ليلة مرعبة جعلت الرفيق ابو عامل ان يصفها بانها (اصعب من قطار الموت)!.

بعد ان قطعنا نصف المسافة والطريق كله صعودا، اشتدت الريح. وقبل ان نصل بساعة، هوت على رؤوسنا العاصفة. كلّ شيء انقلب على رأسه، كما لو أنّ السماء ضربها زلزال!. فبدأ الموت يغرز اظافره في اقدامنا كالمسامير، ويتسلل ببطئ الى الركبتين، ويصعد الى الرأس والعيون!.

تجمعنا حول صخرة قاومت عوامل الانقراض!، فأضطرب البندول، وفقدنا المفاتيح والعلامات. عند ذاك، وفي تلك اللحظة العجيبة، تمنيت ان اتخلى عن قدميَّ. اخلعهما واطمرهما بين حجرين!. وتمنيت ايضا، لو اعلم: اية صورة تتأرجح امام عيني النصير ابو الزوز!. وما الذي يدندن به ابو حمدان عندما تغادر رأسه الذكريات!، وماهي خلاصة تأملات ابو اصطيف السريالية، وعذرا للاخرين، فهذه تجربة موت جديدة من تجارب سفرنا الدامي!.

لم يبقَ امامنا الاّ ساعة واحدة وتسقط رؤوسنا في النوم الابدي، لكنّ يقظة وشجاعة النصير ابو دنيا، دفعته الى ان يقتحم العاصفة، ويعود بأحد القرويين (الدليل) قبل ان نصل الى اخر الزمان.

تقدمنا القروي، جسدهُ يرتعش من الخوف والبرد، وعلى وجهه ملامح استغراب ودهشة وفي رأسهِ سؤال يقلقه قلقا شديدا: هل هؤلاء وحوش ناطقة.. ام ثوار.. ام قراصنة يبحثون عن كنز!؟، فأجاب النصير كريم كطافة على السؤال وقال: نحن كل ذلك، وحوشا وثوارا وقراصنة!!.

بعد عدة ايام من المشي وصلنا الى (كَلي زيوة)، ثم استمرت مفرزتنا بالحركة الى (الفوج الثالث) في (كَلي هصبة)، ثم الى مدينة (بامرني)، ومنها تحركنا الى (كَلي مراني) حيث مقر الفوج الاول، ومنه الى (كافيا)، ثم عدنا الى (زيوة) مرة اخرى .

وصلنا بعد خمسة عشر يوما من التجوال بين (كَارة ومتين) الى (زيوة)، القرية التي تنام بين النهر والجبل وبيوتها مموهة تحت الاشجار واطرافها تحاذي نهر الزاب، تجمع فيها عدد كبير من الانصار جاءوا من قواطع مختلفة حيث يُعقد اجتماع القيادات، ولأن الأنصار لا يضيعون فرصة كهذه، ابتكروا في مساء الخامس من حزيران فكرة لعبة كرة القدم، ولهذا الغرض خرجنا لترميم الساحة الواقعة امام مقر فصيل الادارة، وبعد ان انتهينا من ذلك، بدأت اللعبة وبدأ التصفيق والصياح والتشجيع، وبعد مرور دقائق قليلة دوت صرخة النصير ابو روزا يطلب منّا الانتشار، وبسرعة فائقة اختفى فريق كرة القدم واختفى جمهور المشجعين!.

بدات الطائرات بقصف القمم المحيطة بالوادي اولا، ثم انحدرت لتقصف المقرات بعدة قذائف اخرى، وبعد ان انهت مهمتها قفلت راجعة، فخرجنا من مخابئنا لنرى اننا لم نكن انفسنا، والوادي لا يشبه الوادي، والالوان تغيرت والكائنات اختلفت والرائحة تعفنت، وزيوة باشجارها الخضراء وطيورها الملونة وزابها الجميل تحولت الى وجهها الاخر الكئيب الذي لا روح فيه ولا حياة!.

اشتدّ وطيس ((الحرب اللسانية)) وساد اللغط، ولم نتفق على نوعية المادة التي قذفتها الطائرات، لا احد يعرف، والعبقري ((كَوكَل)) لم يكن قد ولد في ذلك الحين لكي نسأله عن معنى السلاح الكيمياوي!، وبسبب تلك الفوضى لم يُتخذ الاجراء المناسب الذي يساعدنا في تجنب الاصابة او التخفيف منها، ولكني عندما كنت واقفا بالقرب من النصير خابور الذي اصابته شظية في ساقه سمعت الطبيب الكوردي الذي جاء لمعالجته قال بأن الغاز هو غاز الخردل. وبعد ساعات كان اغلب الانصار على علم بأن الطائرات قصفتنا بالاسلحة الكيمياوية وبدأت اثار الغاز تظهر على الوجوه والرئتين وفي الاماكن الحساسة من الجسم.

نمت في تلك الليلة مع اخرين على سطح غرفة (م.س)، وبعد منتصف الليل وعلى اثر ألم في بطني مصحوبا برغبة في التقيؤ استيقظت، فسمعت ضجيجا في فصيل (الاسناد) ورأيت نارا مشتعلة هناك، نزلت من سطح الغرفة وذهبت باتجاه التلة، وعندما وصلت الى مقر الفصيل شاهدت عددا كبيرا من الانصار وقد تجمعوا حول النيران وكأنهم في طقس اسطوري قديم لأشهار ما في قلوبهم من خشوع!، وكانت على وجوه النصيرات حيرة ووجع اكثر من وجع المصابين، وهنّ لا يملنّ من تقديم العون والمساعدة في مشهد تراجيدي لا يمنحك اية فرصة لأن تتأمل اللحظة الاخيرة قبل ان ترحل الى مصيرك الاخير!.

لم نكن في ذلك الحين قد تعلمنا ثقافة الحذر، ولم نتأكد بعد بأنّ اسلوب تواصل الدكتاتور الوحيد معنا ومع العالم هو الكراهية والعنف الشنيع، فبالاضافة الى خطأ هذا التجمع الكبير في مكان واحد، ارتكبنا خطأَ اخرا وهو عدم اتخاذ قرار بالصعود الى القمة في الدقائق الاولى للضربة والذي سيكون كفيلا بحمايتنا من الاصابة او التخفيف منها على الاقل، لكنّ عنادنا القروي هو الذي جعلنا نفضل البقاء والجدل الذي يثبت عكس ما تتمناه السلطة الفاشية.

في صباح اليوم الثاني، اختفى اخر بصيص نور، فكان مناخا سيكولوجيا عجيبا يغنيك عن مشاهدة افلام الرعب وعن قراءة ((الغثيان والايادي القذرة)) لسارتر!، كنّا (نترادم)!، وكان الظلام يطاردنا، واليأس يهاجم المخيلة من دون رحمة وخاصة بعد استشهاد الرفيق ابو فؤاد الذي زاد من حيرة الرفاق وقلقهم. ومن اجل ان نتجنب استنشاق المزيد من الغاز ونتجنب غارات جديدة، بذل الانصار الاصحاء القليلون جهودا كبيرة في ايصال المصابين الى القمة حيث مقر (الدوشكا)، لكن الوقت فات والقرارات متأخرة، واذاعة بغداد بدأت تعزف الالحان التي تخبرنا بأن لا شيء تغير منذ آدم، وانّ الفاشية هي الفاشية، وانّ القتل عابر للقرون والحقب والازمنة، وانّ الانسان مريض رغم انف افلاطون!.

فقدت بصري تماما وصعدت على ظهر البغل برفقة الرفيق آسو كرمياني، وهو احد انصار مفرزة الثلج التي جاءت من سوران، وكان دائم الابتسامة ويتمتع بقدرة على الدعابة، حاول بحكاياته ان يخفف عني ألم السكاكين التي قطعت امعائي والمسامير التي تنغرس في عيوني، ولكن من دون فائدة.

عندما وصلت الى مقر (الدوشكا) الذي انتشر فيه اكثر من 150 من الرفاق (العميان)، كان العلاج حسب اوامر طبيب الاسنان ان تغطس وجهك في الماء الجاري لاكثر من مرة وان تتناول القليل من شوربة العدس وان تكون صبورا وارادتك قوية في تحمل الالام التى راحت تنهش في كل ناحية من جسدك.

لكن المصيبة العظيمة، هي انك حين تفقد بصرك في الجبل، فهذا يعني انك فقدت اخر اسلحتك، وتحولت الى ممثل خارج خشبة المسرح وخارج زمن العرض!، وخاصة اذا كنت لا تمتلك اية معلومة عن النتائج الاخيرة لهذه الاصابة، ولم تجد الذي يخبرك بانّك ستتماثل على الشفاء او انك ستموت بعد قليل، وانما كان كلّ شيء مجهولا وكأنّ الذي نعيشه مجرد قضاء وقدر وما علينا الاّ ترتيل الشهادتين قبل ان تصعد ارواحنا الى الرفيق الاعلى!.

كانت اجسادنا لكي تقاوم بحاجة الى المزيد من الطعام، لكنه شحيح والاصابات كثيرة والذين نجوا قليلون، اما العلاج الطبي فليس له اثر، ولم يبق سوى المعنويات والاصرار على الخروج من الازمة بأقل الخسائر، وهكذا وبعد عدة ايام من المعاناة والاوجاع والاحباط، بدأ النظر يعود تدريجيا للبعض منّا، وبدأت الآلام تخف ايضا، وحين عاد لي اول بصيص من نور، شعرت وبالرغم من الالم الذي تسببه اشعة الشمس وكأني ولدت من جديد.

رحت اتفقد الرفاق واحدا بعد آخر، ابو رائد الذي كان يتمنى ان يرى اولاده الذين تركهم في اليمن قبل ان يلفظ انفاسه، وابو علي الذي أُصيب بنوبة سعال تشعرك بأنّ معدته وصلت الى حنجرته، سألته فقال: ساعة واحدة واموت. ثم ذهبت الى الجندي الاسير الذي أُطلق سراحه، والذي كان نصيبي ان انام الى جانبه في الليلة الثانية، كان المسكين يتألم من الحريق الذي صعد الى جوفه، ولم يصدق أنه بين عشية وضحاها يفقد بصره، فراح يئن ويبكي، حتى ايقظ الجميع بنحيبه ومناجاته لأمه!، يا يمة يا يمة.. فجلست وسألته سؤالا ساذجا.. لماذا تبكي!؟. سكتَ في اول الامر، ويبدو ادهشهُ الغباء الذي ينطوي عليه السؤال!، ثم ردّ قائلا: (أنا اذا راسي يوجعني اروح الى امي ابجي.. وهسة كيمياوي واعمى وتسألني ليش ابجي)!.

واخيرا بحثت عن صديقي ابو الزوز الذي ما زال اعمى ويجلس وحيدا تحت شجرة، كان معي اثناء القصف، ولما غسلت (الجمداني) في الساقية ووضعته على وجهي نظر الي مستغربا ومستنكرا ثم اخذه ورماه على الارض لقناعته بأنّ السلاح لم يكن كيمياويا. مررت من امامه وضربت الارض ضربة قوية بقدمي، ففزّ وصاح: منهو هنا.. لم اجبه، وانما مشيت مسافة اخرى ثم عدت اليه، فضربت الارض بقدمي ضربة اخرى، فأنتبه وصاح: منهو هنا اريد مي، وهكذا......... (شلعت كَلبه يلا جبتله مي)!.

وبعد كلّ هذا الضيم، (ونحن الذين صنعنا السحر....)!، الا يحق لنا ان نسأل: كيف تحولت البلاد الى كعكة يتكوم فوقها سرب من النمل!؟.

عرض مقالات: