بعد رحلة طويلة بالقطار من طهران الى مشهد، نقلتنا سيارة مستأجرة الى مدينة حدودية قرب المثلث الحدودي الإيراني ـ الأفغاني ـ التركمانستاني، تدعى سرخس. ولسرخس الإيرانية مدينة توأم تحمل ذات الأسم على الجانب التركمانستاني من الحدود التي كانت قائمة بين إيران والأتحاد السوفييتي، الذي كانت تركمانستان أحدى جمهورياته الخمسة عشر. وكان علينا أن نتسلل ليلا، سيرا على الأقدام، من سرخس الأيرانية الى سرخس التركمانستانية ـ السوفييتية. ومع كل خطوة نخطوها كنا نقترب من الكيان الحلم، من مجتمع المساواة، في دولة العمال والفلاحين.

تجربتنا الكردستانية في السير ليلا في الطرق المتعرجة والوعرة، جعلت من مسيرتنا في الأرض المنبسطة، بين المدينتين التوأمين اللتين تفصل بينهما حدود دولية شبيهة بنزه، ستنتهي بنا الى المثال الأرضي للفردوس. في الطريق، سرح ذهني إلى رحلتي الأولى، الفاشلة، الى خارج العراق، قبل عشر سنوات من هذه الرحلة ألى أرض الأحلام. عادت بي الذاكرة الى ذلك التيه الصحراوي في تلك المتاهة الممتدة بين العراق والسعودية و الكويت، في ليلة ماطرة من ليالي شهر شباط ـ فبراير 1979، ليلة حجبت غيومها النجوم التي كان يستهدي بها الدليل الصحراوي، الذي قادني ورفيقيّ باتجاه الحدود الكويتية. وجعلنا ندور طيلة الليل حول أنفسنا، نظن أن أضواء المخفر الحدودي الكويتي أمامنا، ونتجه نحوها، لنفاجأ بعد ذلك أن تلك الأضواء أمست خلفنا.

لم نكن حينها نحمل ماء أو طعاما، أعتمادا على تأكيدات الدليل باننا لسنا بحاجة الى إثقال أنفسنا بمتاع لا ضرورة له. عطشى وجوعى اختبأنا في شعاب الصحراء الرطبة الباردة، حين بدأت ظلمة الليل بالتبدد. كان علينا أن نلزم جحورنا، نهارا كاملا، لكي لا تكتشفنا دوريات خفر الحدود الكويتية. بانتظار الليلة التالية لمواصلة رحلتنا المضنية.

ما أن أسدل الظلام سدوله، وتلآلأت في السماء بعض النجوم، حتى استأنفنا مسيرتنا باتجاه أقرب تجمع سكني كويتي يدعى ((المطلاع)) وبعد مسيرة ليلة أخرى، بدت لنا شديدة الأجهاد، مع أنها إقل أجهادا من مسيرة الليلية السابقة، ومع بصيص شمس الصباح لاح لنا شبح المطلاع. فودعنا دليلنا الصحراوي عائدا الى الجانب العراقي، ليتركنا نكمل الرحلة الى الكويت. كنا نحن الثلاثة في حالة مزرية، جراء بقائنا نهارا كاملا، ممددين فوق الرمال وتحت المطر، وكان منظرنا كفيل بأثارة الشبهات حولنا في هذا المكان الغريب. وكان الحل أن نبقى أنا وأحد رفيقي في أطراف التجمع، ويتوجه ثالثنا، وهو أكبرنا عمرا، وسبق له زيارة الكويت في أوضاع عادية، للحصول على سيارة تنقلنا جميعا الى عنوان متفق عليه.

لم يمض وقت طويل حتى وصلتنا سيارة، لكنها لم تكن السيارة التي ننتظر، وانما سيارة دورية من دوريات الشرطة الكويتية، طلبوا هوياتنها، ولم يكن من الحكمة أن أخرج لهم هويتي الصادرة عن نقابة الصحفيين العراقيين، فنتيجة ذلك لن تكون سوى تسليمي ورفيقي الى سلطات البعث العراقي، التي كانت حينها على وئام تام مع السلطات الكويتية. وعزمت على تمزيق هويتي الصحفية في اول فرصة تسنح لي. وكان جوابنا أننا لا نحمل هويات، فقالوا بثقة العارف العليم: أنتم إذن ((كعيبرية).) وكعيبرية هي صفة جمع، مفردها ((كعيبر)) أي باحث بسيط عن عمل في الكويت. كان أدماجنا في هذه الفئة هو فرصتنا الوحيدة لاحتمال إعادتنا المؤكدة الى العراق، دون شبهات سياسية. أقتادونا الى سيارتهم وقبل أن تتحرك السيارة، لمحنا رفيقنا وهو في سيارة أخرى عائد لينقلنا، فأشحنا عنه وأشاح عنا ببصره.