يندر ان نقرأ قصصاً افتراضية تقع تحت تصنيف السرد الترابطي (التفاعلي)، لكن مجموعة القاصة خولة الناهي (جنوب خط ٣٣) الصادرة عن (دار أمل الجديدة، ٢٠١٩) تقترب حثيثاً من هذه المفاجأة السعيدة، وتبشر بافتتاح كتابة النص الواقع جنوب الخطوط السردية التقليدية.
إن الناظم البنائي لهذه القصص يستند الى العلامة التواصلية/ الترابطية المعروفة ب "الهاشتاغ". ففوق عشرِ علامات هاشتاغ تنتظم قصص المجموعة الثلاث والثلاثون، وتتسق في نسقين أساسيين: الارتكاز والتشظي، وهذان يشتملان على موضوعات القصص الأساسية: الطفولة والطبيعة والحرب. إن تشكيل حوادث القصص، ثم إعادة ربطها بمجموعات افتراضية، مبرر كافٍ لوجود عالم متباعد الأجزاء. وتكاد القصة الافتتاحية للمجموعة (لعبة الزئبق) تكون مرتكزاً لجمع الأجزاء المترابطة تحت خيمة الهاشتاغات الإلكترونية . فالحدث المستذكَر يتشظى/ يتبعثر/ ينزلق/ يتجمع كقطرات الزئبق المسكوبة في إناء اسود اللون. لقد اشارت اللعبة الطفلية بإناء الزئبق الى حلم مستقبلي يتحقق بوساطة حاسوب تحصل عليه طفلة الماضي عندما تكبر: "لم أعد مضطرة الى مطاردة حبات الزئبق في الخيال، فالحروف الزئبقية _ على الحاسوب_ هي التي تطاردني وتجمع شتاتي، وتفرق ما تجمّع في قلبي من احزان. كم أنا ممتنة لكل هذا الزئبق الذي يحيطني والذي جعل مني لاعبة مميزة في عالم الأحلام الافتراضي". ص ٧
سنكتشف أن الحلم نسقٌ موازٍ لنسق اللعبة الزئبقية. بل إننا سنعرف أن قواعد هذه اللعبة تتفق مع مبدأ "الكارما" في الفلسفة البوذية. هنا في مجموعة القصص الافتراضية سنميز بين الزيف والحقيقة على أساس التجربة الذاتية العميقة. ونستبين من قصة (سجادة فارسية) ما تعني الكاريزما للقاصة وفلسفتها الأخلاقية: "فهي تشعر كما لو أنها عمّرت ألف عام كمثل سجادة فارسية عاشت تاريخ العصور وداست عليها ارجلُ الأمراء والعوام". لكن هذه الديمومة الروحية لضمير السرد الأنثوي المعمّر، سرعان ما يرتد الى اللحظة الحاضرة، فيخشى ان يكتشف الحبيب "زيف صناعة الجمال" ويدرك اللعبةَ المموَّهة حدًّ الغش والخداع. فالسرد يكشف عن خداعه بقدر ما تكشف الذات عن عاطفتها المغشوشة، بوعي غير مغشوش!
تقترب لعبة القصّ من هذا الحدّ، وتخشى التنطع والاحتكام لصلابة الواقع وقيمه الأخلاقية. إلا ان القاصة خولة الناهي، وقد "تخيّمت" بعلامات الهاشتاغ الافتراضية، ستقابل هذه الخشية بكثير من الحكمة والتشبيهات الجمالية والحوارات الشاعرية والمحايثات الواقعية والشخصية. وعموماً فإن القاصة تحصر هذه الإجراءات تحت هاشتاغ جامع هو "#جنوب _دائرة _عرض ٣٣" الذي يقع في ذيل القائمة.. ومن هذه الاجراءات الافتراضية تنبع التشبيهات والمجازات، كتشبيه آلة صيد الأسماك "الوهار" المصنوع من اغصان الشجر "بتنورة فساتين اميرات العصور الوسطى". او تتوالى العبارات بالحِكم والمأثورات كمثل حكمة: "إن فقد الجندي إبهامه في الحرب، أفضل بكثير من أن يكون جزءاً من هذه الحرب". (ص١١)
تلاءمت مجموعة قصص خولة الناهي مع خصائص النص الترابطي/ التفاعلي hypertext في عملية الاستبدال الافتراضي للوقائع وتعويضها بتخيلات الشاشة الإلكترونية (قصة: استراليون مثلا، ص ٢٠، وقصة: حذف خبر، ص ٣٥). وبهذه الصيرورة التفاعلية تنبثق القصص من "لمسات سحرية" ببنان إصبعٍ على شاشة حاسوب، كانبثاق نبتات الزهر من تحت طابوق أرضيات المنزل (قصة: أصابعي أشجار، ص٩). كما لا تحرمنا زئبقية السرد الافتراضي من أن نُجري مثل هذا الحوار الشاعري:
"_
أتعرفين؟ لا شيء يضاهي رائحة العشب بالندى!
_
ليس للندى رائحة في ذاكرتي ولكن له مذاق الرحيق السماوي!". (قصة: أرجوحة نيسان، ص٣٩)
وعلى هذا المنوال الافتراضي، مرّت عنونة القصص بمرحلتين: مرحلة العلامة الأساسية (الهاشتاغ)، ومرحلة العنوان الفرعي للقصص، بحسب علاقته بالهاشتاغ الرئيس. بذا فإن طريقة خولة الناهي في تجميع النصوص خضعت الى خاصية علامة الهاشتاغ التواصلية (التي تُستخدم اصلاً لتصنيف التغريدات أو الأخبار ذات الموضوع الواحد على التويتر والفيس بوك). إذ يمكننا قراءة النصوص في المجموعة حسب ترابطها المضموني المشترك، لا حسب عنواناتها الظاهرة عليها. كما أن التكثيف البنائي (اللغوي والأدائي) للقصص يرجع الى خاصية الخطاب النصي على مواقع التواصل الاجتماعي، بما ينطوي عليه من مجازات رمزية، وتشبيهات شاعرية، واختصار شديد: "ارتدت معطفها وساقها الاصطناعية واستعدت لمواجهة يوم جديد" (قصة: شجاعة، المكونة من ثمانية كلمات، ص٥١).
أما حينما ننتهي من تصنيف النصوص وربط مضامينها في حزم تواصلية، فقد نستطيع أخيراً التعريف بالاسم الافتراضي لكاتبة القصص (صفاتها الجوهرية) إذ اعتادت خولة الناهي ان تدون منشوراتها الفيسبوكية باسم مستعار kh. Mohamed لكي تسمح للعلامة الافتراضية # بالاشتغال تحت نصوصها وصورها المبتكرة على صفحتها في الفيس بوك، عوضاً عن هويتها المعروفة لأصدقائها. ولقد أحبَّ أصدقاؤها لعبتها "الزئبقية" هذه وشاركوها عالمها الافتراضي النادر بخواصه وموضوعاته. ومن جهتي فقد كانت هذه اللعبة واحدة من أفضل المصادفات التي حكمت علاقاتي بالكتاب الذين قرأتُ لهم وتأثرتُ بنصوصهم (القدامى والجدد). لم التقِ عبد الملك نوري قط خلال حياته، ومثله غائب طعمة فرمان ونزار عباس وسركون بولص. أما لقاءاتي القصيرة بفؤاد التكرلي فقد تركت في خاطري صورةً شاحبة سرعان ما توارت خلف شخصيته الأدبية غير المرئية. إن هؤلاء جميعا ذوو حضور جوهري لا تعوضه اليوم سوى علامة هاشتاغ افتراضية، فضلتُ أن أعرف خولة الناهي بوساطتها، لا بوساطة الاسم المطبوع على مجموعتها القصصية.

عرض مقالات: