ليس النهر من ملحقات المدينة ، انه قرينها الضروري الذي لا يستغني عنه ابدا ، فهو مقترن بها اقترانا أزليا، ورحمها الخالق لوجودها، يمكث على قيد ذراع منها، وبوسعه الاتيان بالرخاء لها حالما تفيض مياهه بالبركة فالأنهار هي مجاري المياه في الأرض ، تجري وتندفع حاملة الخصب والنماء.. ولكني لم ار شط (العمارة) الا كيانا عيانيا لذا يصل المدينة بالأرض ويرتبط معها بأسرار مقدسة… انه حليف الطين الذي يطبع وجود المدينة في كل شيء وحاضنتها الممتدة على جانبيه التكوينات الغرينية لعمليات الإرساب الحوضية التي القاها جريان النهرين على مدى واسع من الزمن.
كان النهر يفيض بأقصى إمكاناته المائية فنغترف الماء من حافاته العالية لنغتسل كل يوم بعطائه الغريني … إن أية قراءة لجريانه تسمح لنا بتصور وجوده مقرونا بدلالات أخر، فتفرعاته ليست ناقلة للمياه فحسب ولا ينحصر هدفها في الارواء فقط، انها مقرونة بأسباب مواصلة العيش، فهي رمز او دليل على اشياء اخرى مثل وفرة الصيد وركوب متن الاسفار الى اماكن صعبة البلوغ وتقديم الغوث والمساعدة لمن ينتظرها عبر مياهه الصالحة للملاحة … ان ثراء مدينة العمارة يكمن في انهارها… اما شطها فيكشف عن جوهر المدينة التي ما برحت تعقد جذورها حول ذراعيه المائيتين لتستكين الى الاطمئنان .
ان هاتفا يدعوني الى استكناه الحضور المسيطر لذلك الشط وانهاره يوم كانت آية في النضارة وحواليها تمتد الحقول الخضر، فغير بعيد عن ضفافها نرى اكداس الطعام وصوامع الغلال وساجرات التنانير بشعلهن المتوهجة، ثم نرى منازح المياه ومضخات السقي والسفن الشراعية التي تجوبها فتنقل أكابر سفنها المسماة (العانية) ذات الاشرعة البيضاء الكميات الغزيرة لغلة الارض … ان قابلية الانهار على حمل المياه تنصرف الى اقصى قصدها لتشكل في تلك المواسم مصدرا إروائيا ثرا يفي بمتطلبات التجهيز المائي للأرض كلها، انها تمضي هادرة مرسلة فروعها الجانبية الى اعماق الارض حيث القنوات التي تغذيها السواقي الزاحفة بعيدا لتصل في النهاية الى ذيول الانهار، .. ان الارض تكشف عن حجابها لمياه انهارها القديمة فتروي المواضع الغليظة فيها طاردة ملوحتها مخرجة ثمارها الى اعالي الاشجار… وعلى الشاكلة ذاتها كانت انهار كثيرة وطليقة الزمام ولكنها تمردت على مدنها فخرجت من طوعها فخلف المشهد المرئي والهادئ يمثل الشكل الاخر لجبروت النهر وجيشانه العاصف والذي يحوله الى قوة عمياء قاهرة، تنبئ عن خطر محيق، وتلفظ دمارا هائلا، فهو الذي يقلق المدينة ويوفر لها الاطمئنان في الان ذاته، وتلك هي غرابة مسلكه المنطوية على عدوانية مؤجلة او متنحية الى حين، فيتراءى بين التبعية للبيئة والثورة عليها، انه لا يلازم صورة واحدة ولا يتردد في اطلاق تياره الذي بإمكانه ان يجرف بلدانا بأكملها، فكم من مدينة احاطت بها صور الموت والدمار ولم تترك المياه أي أثر يشير لوجودها .
ان الارتياب من النهر له ضروراته ففي باكورة العهود القديمة وقبل ان يتمكن الانسان من تنضيد كتل الاحجار الكبيرة ليخضع المياه لسيطرته، في تلك الآونة كانت المدن تقيم احتفالاتها القربانية للأنهار ارضاء لها واتقاء لاندفاعاتها الحرة، وعلى مدى واسع من الزمن ظلت المدن تدرك بانها ولدت لصق خطر داهم، وقد يُعصف بمصيرها في اية لحظة بسبب أهواء النهر.
ان الانهار لا تصرح بمقاصدها الغامضة فالتصريح انقضاء لمعنى التواصل ولولا فيضاناتها المنطوية على اسرار مبيته لجفت الانهار وكفت عن التواصل .
ان مدنا قديمة وكثيرة لا يعرف لها عمر كانت تقع على ضفاف نهري دجلة والفرات ثم تحولت تحت تأثير مطلب المحيط الامن الى حصون مغلقة الجهات فاشتهرت بمنعة اسوارها ومتانة تحصيناتها،لكنها لم تفلح في استلام أي اشارة منبئة بالخطر يوم كانت تغفو على هدير الجريان الهادئ لنهرها الازلي، ثم وقعت في قبضة الفاتحين الذين زحفوا اليها بطريق النهر فواجهت مصيرها فجأة وعلى نحو لا مفر منه، ان الانهار تعد وجها من وجوه خداع الطبيعة فانهار الزمن القديم تخفي نقيضها وتسمح لنا بالقول بانها توفر فرصا سانحة لتدمير المدن مثلما توفر فرصا مغرية لنشوئها .
ان الاستحكامات الارضية القديمة تشير الى انهار كانت من بين المعرقلات الارضية الناجحة التي توفر اطمئنانا فائقا للمدن، وتماثل في ذلك ابوابها الثقيلة والمقفلة، التي تؤمن حدودا معلومة لأية مدينة وتمنعها من التوسع الكيفي من غير حد وذلك ما دعاه (امبرتو ايكو ) المعنى او المعيار الشرعي – للحد – وهو (اصل الخرافة الخاصة بتأسيس روما) لقد خط (روميليس ) على الارض خطا وقتل اخاه لأنه لم يحترم في نظره الخط، وذلك لأن رفض فرضية الحدود يتولد عنهُ غياب اية مدينة، لقد اصبح – هوراس – بطلا لأنه استطاع ان يمنع العدو من اجتياز الحدود وهو – جسر يفصل بين الرومان والاخرين – لذا رأى قادة روما القديمة ان الجسور عمل تدنيسي لأنه تخط للخندق المليء بالماء او النهر الذي يعين حدود المدينة ويمثل تحديدا لخطوط الدفاع عنها ولولاها لأصبحت اية مدينة في مكان آخر، وقد تأكد حدسهم بالفعل حينما استطاع (جول سيزار) في عهد زمني لاحق، دخولها على رأس جيش ضخم تسلل عبر جسر صغير يقع على نهر ساحلي فيها) .
ان هذا التغاير في الادوار يسمح لنا بان نبدي انتباها خاصا لجريانها المتلاحق وما يحمل من توليفات مركبة، وثنائية المفهوم، لا تحكمها براهين قاطعة، لأنها تقع في سياق متناوب وقائم على المراوحة الاضمارية بين الخير والشر .
نعم … بامكاننا التحكم بسلطة النهر القائمة على كبرياء التمرد وتحجيمها عبر ترويض النوازع الفطرية التي تطلق المياه من محبسها ولكن ذلك لا يصلح الا لخيارات معينة فبعض الانهار لا تمتثل لرغبتنا بيسر فتحقق الاداء على وجه آخر.
ان نهرا كنهر (الدويريج) والذي يقع شمال مدينة (المشرح) بامتداداته الصحراوية يشي بمسلك غريب آخر ومعاكس لخيارات النوازع الفطرية للأنهار، وينطوي على امكانية التعطيل الفعلي لمجراه، استجابة لعوارض الطقس وحالات انقلاب الجو، التي تكسر استمرارية المألوف وتضع النهر ضمن نظام اروائي خاص، يتصف بالمراوحة بين الخلو والامتلاء، انه الوعاء المزدوج لمفهومين ليسا من نمط واحد، فديمومة الخصب مخبأة في طارئ الجفاف .
ان الالتباسات الطقسية لا توفر لنهر كهذا خيارات متساوية انما تسهم في جعل مياهه تتحكم بها قوانين الاحتمال، لذا نراه يمتلئ في لحظة ويجف في اخرى، فكل انسحاب لمياهه، ينبئ عن عودة ثانية وعبر هذا السجال الإروائي المتناوب يجدد النهر نشأته، بوصفه وعاء مزدوجا تتقاسمه التعارضات الثنائية، والناجمة عن حركتي الخلو والامتلاء فحركة جريانه تنقطع بفاصل الجفاف، لتكشف عن قاعه العميق – قناعه التحتي المليء بالمعنى – والمتكون من الترسبات الغرينية الحمراء، والمخاوف الرابضة في الاطيان، واسراره المتكتمة تحت قناع جريانه .
ان التلازم الثنائي هذا ينم عن تلاحم المشهدين ويعبر عن قصد تواصلي فكل حركة تحمل معنى مضاعفا، لا تستغني عن نقيضها، فطوال الفاصل الزمني للجفاف ينعم النهر بالهدوء ويستمع الى ما يجري من حوله، ثم يستأنف رحلته من جديد، حاملا تياراته الغزيرة والجارفة ناشرا الخصوبة على وجه الارض، انه يقابل بين ذاكرتين تجمعهما علاقة استمرار لا قطيعة، ويتصرف بحدود ما يميزه.

عرض مقالات: