منذ زمنٍ ليس بالبعيد وأنا أجهد نفسي بالمتابعة والمشاهدة عبر اليوتيوب للشاعرين ضياء المياحي ومحمد الجراح، مستعيناً بذلك كما اسلفت بمقاطع الفيديو المنتشرة في شبكة الانترنت وكذلك استفدتُ كثيرا من خلال جلوسي المستمر مع الشاعر المياحي ومع مجايليه دون أن أحظى بلذة الاستماع مباشرة للشاعر الجراح، أو بتعبيرٍ أدقّ أنني لم أنقطع عن المتعةِ والاندهاش والتلذذ من خلال المنقول على شفاه محبيه من شعرٍ ومواقف إنسانية، أعلم أن لكلِّ منهما اسلوبه الخاص المختلف عن الآخر من حيث كتابة القصيدة والإلقاء، ولكن بلا أدنى شك أنَّهما ينبعان من نهرٍ واحدٍ هو الإبداع ويجريان بلا توقف عبر الحقولِ الطافحةِ بالحياةِ ويصبان فكرهما وصورهما الشعرية في حديقة الجمال، للحزنِ النصيبُ الأكبر في شعرهما، صوتيهما ذي اللون الكربلائي، يحلّقُ بك إلى عوالم ملؤها بهجة وأريحية، لا شوائب ولا طلاسم فيما يكتبان، القصيدة تأتي سلسة وخفيفة على الأسماع، أجزمُ؛ إنِّهما مشروعان ناجحان لشاعرين حقيقيين. الشعرُ مثل الأغاني الرصينة، لا تَمل من الاستماع له والاستمتاع به. الشعرُ الملاذ الدافئ للقلوبِ المتأججة بالعشق وللارواح المنغمسة بحزنها الشفيف الندي، النافرة من القبح والباحثة عن قيلولةٍ من التجلي والانصهار. الشعرُ الشعبي، (سوالفنة) ولكن بطريقةِ حكيم وصوتِ نبي. الشعرُ ملاذ الشعوب المتعبة، الباحثة عن الدفء والتواصل الثقافي، به تتضح المعالم الحقيقية للمشاعر الإنسانية، وهو ترجمة للوقائع السالفة والأحداث المنسية، نستعين به إذا ما جفت (السوالف) أمام من نحب. هو تقليص معاناة حياة شاسعة من ألم ودمع وأحلام برؤية شاعر متمكن من أدواته وثقافته الواسعة.

المياحي يقول: من كثر ما انه حذر

والرد احسه سهم واكف بخاصرتي

بالليل احطلي عذر عد راس سالفتي

*********

من يشيلك صاحبك دنياك تسوه

وكلشي بيهه ظنونك يسامر معزه

وانت يا خيط الجفه الكلش رفيع

ليش تترسني شمس وتكلي ضيع!!

هذا هو الشعر الحقيقي الذي يجعلك تعيد قراءته أكثر من مرة بلا ملل، يسحبك نحو موسيقاه بكلِّ هدوءٍ ثم بعد ذلك تبدأ بوضعِ ألحانك الخاصة كي تغنيه حتى وإن كان صوتك لا يصلحُ للغناء، المفردة في مكانها، الصورة الشعرية حديثة غير مبتذلة، الشعر المروي أو اللابس جلباب القصة يكون مثل وجه فتاةٍ في يوم زفافها، أصبح الشعر قريباً جداً من الجميع، ويأتيك على طبقٍ من صوت وبدون أيّ جهد، ونتيجة التطور الهائل في قنوات التواصل الاجتماعي، أصبحت الجلسات الشعرية والمهرجانات حاضرة أمامنا وكأنها تقام في بيوتنا، صار سهلاً علينا التواصل والتفاعل معها، حتى وأن كانت تُبث من أبعد نقطة من هذا الكون.

الشاعر ضياء المياحي، عرفته وجالسته ولمستُ فيه الشاعر المثقف، الباحث عن كلِّ جديد، صور ومفردات، لا يكتب الشعر بل روحه تسيلُ على الورق، لذلك هو ومجموعة قليلة معه من الشعراء يمتازون بالشعرية الصادقة الخالصة، صوره البلاغية معقولة مقبولة، لا يصنعُ من النهرِ أجنحةً كي يطير أمام الشمس، ولا من الغيمةِ بساطاً للرحيل، بل باستطاعتهِ أن يكتب ما شاء على ذلك النهر حتى وإن اختفى ما كتبه، وعن الغيمةِ باعتبارها ساقية.

أرد امشي صوب النهر وابطي

واكتب على المشرعة بخطي

شديت راية بزند حنطي

مثل الخبز ينثلم، يطي

سيلٌ من الشعرِ يقذفه علينا بصوتهِ الذي يُعطي للمفردةِ بعداً جمالياً كبيراً، دون اللجوء إلى التهويمات الفارغة والتي يستخدمها الكثيرون من مجايليه، محاولين بذلك لفت انتباه المتلقي، وما دروا أنَّها سينتهي تأثيرها لحظة النزول من المنصة..

ما أتيه ظنون الودايع

جيمة غروب بعين جايع

هذا انه بدروب الوشايع

ريحة نشد بهدوم ضايع،

صورة مبتكرة في الشعر الشعبي العراقي، (ريحة نشد بهدوم ضايع )، عن أي ضياع يريد أن يخبرنا الشاعر؟ وهل الرائحة تكفي لإيصال فكرة وسؤال من هو ضائع؟ وقبل كل ذلك، كان الغروب يهبط كالسكاكين على خطواتِ من ضاع. أسئلة كثيرة عن ضياع القيم والمبادئ، عن ضياع حياتنا وأحلامنا، عن ضياع تلك الطقوس العاشورائية التي وعلى الرغمِ من صبغةِ الحزنِ ولكن كنا نتلذذ بها، فهل من جواب!؟ ربما محمد الجراح يجيبنا شعريا عن الاستفهامات الكثيرة التي تجول في أذهاننا، كيف لا. وهو طبيب القصيدة ومخلص جسدها من كلِّ درن، وذلك لأنَّه جرّبَ البيئتين، فصار المعلم الذي يلوذ بجنبيه طلابه، وهو الطير الذي يلتقط من حباتِ اللغةِ أجودها وأنفعها ليشبعَ بها قصيدته.

عشكت الكاع، جا وحنه

بعمر نسمة وهواك شجاس وتبديت من عدنه

عثرت وطاحت اسم الله سوالفنه

يل البكدنه متت، جا ليش مامتنه؟

يا للعجب أردنا منه أن يُجيبنا عن أسئلة المياحي فإذا به يضعنا في خانة أسئلةٍ جديدة، وكأنَّ قدر الشعر أن يظلَّ يسأل دائماً باحثاً عن أجوبة لم تكتشف للآن.

المختلف محمد الجراح:

مجبور اسند الغرب، بالضيج ما اسندك

كل ما يجيني جرح والكاه من عندك

ويكبر بروحي النشد واشتاكلك وابجي

واصيحلي والتفت والكاك ما تحجي

يجبرك أن تنصت له، يجعلك تحلم وتطير كما النورس فوق بحارٍ ممتلئةٍ بالهدوء، يشبعك شعرا إذا ما كنتَ جوعاناً ويرويك كلما شعرتَ بالعطش. هنيئاً للشعر الشعبي العراقي بهذين الصوتين المنفردين.