اول القول :

ليس كل ما في الدولة يمكن ان يكون وسيماً . في كتابه ( الدولة و الثورة) ميّز فلاديمير لينين  ، بموقفه النقدي اللامع،  رسمية الدولة و طبقيتها وقوميتها وتاريخيتها ، اعتماداً ليس على أرشيفات تاريخية عن ماضي وجودها ، بل على أساس التحليل العلمي لمستقبل تطورها و رصد معالم كينونتها . 

تاريخ جميع بلدان العالم يعلّمنا ان في دولها محاسن تُبتغى و مساوئ تُتقى. خاصة اذا ما عرفنا ان جوهر الفتنة الآتي من الدولة - أية دولة - هو اذا كان مسعاها قائماً على قافيتين ؛ أولاً ، قافية الدولة العلنية  ، البرلمانية ، الانتخابية ، الباحثة عن سؤدد المواطنين . و ثانياً قافية الدولة السرية المجرورة بالقيود والحدود . 

الدولة الثانية تقف خلف الدولة الاولى ، محركاً  لها. 

الدولة الثانية تخطط هدفاً ممنهجاً لحرية الدولة الأولى و قيودها ، حسب الحاجة . 

الدولة الثانية تستغل وسامة الاولى و حلاوتها و جمال ادائها لغاياتها المشتملة على مصالح طبقية او عشائرية او عائلية . اسرارها الأولية و الختامية تقوم على قدرتها السرية في استخدام المكواة في رأس اساليبها بتعذيب معارضي  برامج و سياسات الدولة الاولى ، و قدرتها ، ايضاً، على استخدام احكام القتل والفناء الجماعي تحت الاطلال، سواء بأساليب الحروب او باستخدام أساليب اكثر حداثةً تؤدي بالمواطنين الى المقابر الجماعية . 

في ظل تكاثر الزواج السري في عراق ما بعد نيسان عام ٢٠٠٣ ، خاصة ( زواج الطفولة) و في ظل العنف على الهوية بين الطوائف و اختطاف النساء واغتصابهم و قتلهن و في ظل مختلف أنواع الطغيان المنقول عن الإسلاميين الغامضين و غير الغامضين و اخرهم جماعات الدولة الداعشية و افعالها في الموصل و تكريت و الانبار و غيرها . ظهر مصطلح ( الدولة العميقة) في العراق بين مجموعات من  نواب البرلمان و وزراء الحكومة  و الصحفيين مصاغاً ببعض الآراء الصحفية عن  ( وجود)  غرائز و شهوات و عنف الدولة العميقة من دون الامتثال لطبيعة الله او لفضيلة الدين السماوي ، كما يدعون و يعلنون ، و لا احترام الدستور الموضوع من قبلهم ولا البحث في المفاهيم الاغريقية القديمة التي كان هدفها البسيط توفير الصحة واليسر و القوة للمواطنين  .

 لا احد يشير في اقواله عن مكونات الدولة العميقة و شخصياتها و كيفية ممارسات افعالها و إمكانية مقارنتها بالدولة الأم ، الدولة الطبيعية ، الاعتيادية ، التي ( تحبل و تجيب)، علناً، أمام جميع سكانها.

غابت الفضيلة وغابت السعادة و غاب الاستقرار منذ ذلك اليوم ، حتى اليوم، فقد صار الدين و السلاح شيئاً واحداً يستعملان في آن واحد. هكذا تقهقر القانون العراقي أمام دورات الثأر الشخصي و الانتقام الجمعي ، كأن أناس بغداد و ديالى و تكريت و الحلة وغيرها يعيشون في قطعان حيوانية يخضعون لقانون قطعان  الدولة الأقوى ، الدولة العميقة. مما جعل جسد  الديمقراطية العراقية المدّعى بولادتها بعد 2003 ، يفسد ، يوماً بعد يوم ، ثم يتحول شكلها العام إلى نوع جديد يمكن تسميته بالطغيان الأعلى  في ظل الديمقراطية بالأسفل.

في المعاني الاولى عن (الدولة العميقة)  نسمع انها ، عموماً ،  ذات مهام سرية فوضوية بالدرجة الاولى ، اي انها بالعكس ، تماماً، من أول (دولة عميقة)  متكاملة تكونت في الشرق الأوسط للمرة الاولى في  داخل نطاق تركيا ، لتمثل آراء مجموعة  من الليبراليين من أنصار  الزعيم التركي كمال اتاتورك في الدفاع عن العلمانية و نموذجها الشكلي - الاخلاقي ، الفاعل بسرية تامة ،  من قبل قادة عسكريين كبار تابعين او مؤمنين بمبادئ اتاتورك  في التاريخ و المواطنة . 

ليس فقط نموذج الدولة العميقة موجود حكايته في الجمهورية التركية ، بل هناك حكايات كثيرة في مختلف الازمنة و الامكنة عن الدولة العميقة . و حكايات اخرى عن ترمل العديد من الدول العميقة في مساحات اخرى من جغرافيا الشرق الأوسط  حين محا التاريخ هذه الدولة او تلك او حين تغيرت  قيادة هذه الدولة او تلك بانقلاب عسكري او بالحصول على شهادة الثورة الشعبية . كنا ، نحن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ، و الجيل الثاني من الشيوعيين العراقيين ، نعتقد ، اعتقاداً جازماً، ان ( الماسونية ) تقف وراء كل دولة سرية ، أو وراء مفهوم ( دولة داخل دولة).

عام ١٩٦٢ بدأت حرب بين الدولة الهندية و الدولة الصينية . جذور الهند تمتد الى الثقافة البورجوازية المنادية بالسلام و التنمية البشرية و بالرؤية القومية الرأسمالية ، بينما كانت الصين  بلداً نموذجيا للماركسية الشعبية . إذاً يمكن القول ان من أشعل الحرب بين بلدين محبين للسلم و الحرية هما الدولة العميقة الهندية و الدولة العميقة في الصين ، بالرغم  من ان جميع تحليلات تلك الحرب مالت الى التغاضي عن حقيقة وافكار ومصالح (النخب العميقة ) القائدة في البلدين .

السؤال ، الان ، هو : هل يمكن تخيل الدولة العميقة في العراق بمفاهيم او اقطاب دولة عميقة اخرى مثل الدولة العميقة في تركيا او الدولة العميقة في السعودية او الدولة العميقة  في الجمهورية الاسلامية الإيرانية ..؟ 

ربما لا يستطيع اي احد من التمييز الواضح و الصارم في طبيعة المقارنة بين الدولة العراقية العميقة  مع اي دولة عميقة اخرى . 

من طبيعة الحداثة السياسية في العراق ان بعض الباحثين العراقيين ينتهجون أساليب غامضة عند ممارسة البحث عن مشكلة من المشاكل  الاساسية التي تخص العراق ، حين نجد هذا الباحث او ذاك (يلغمط) القضية و كأنها حدثت بين الناس في كوكب المريخ ..!

تواً انهيت قراءة مقالين لباحثين أكاديميين عراقيين عن  ( الدولة العميقة)  من دون ان يربط اي واحد منهما وجود و ممارسات و تعريفات عن  ( الدولة العميقة ) بإشارة و لو بسيطة  الى واقع هذه الدولة في جمهورية العراق الراهنة .  تحدث الباحثان بصورة متشظية و متقطعة عن تعريف الدولة العميقة على وفق رؤية الجماعات الأكاديمية المرتبطة بالجماعات الحاكمة أو حتى غير المرتبطة ،  في  عدد من الدول الرأسمالية المتطورة . أغفل ، تعمداً، تخيل وجود الدولة العميقة في العراق المعاصر ، ربما حرصاً على التمسك بالاعتدال الافلاطوني ،  لكنه وقع من دون ان يدري في الإساءة الى الاخلاق السياسية لأنه كان مجاملاً ، أكثر من اللازم ،  لأصحاب الاطار المادي – المسلح،  الواقفين في العراق خلف الدولة العميقة ، بمعنى ان هذا الكاتب قد تخلى عن سلطة الرأي المستقل الصريح .

لم يقدم أي من الكاتبين الفاضلين حسابا ً دقيقاً ، لا مركزاً و لا تفصيلياً ، عن ماهية (الدولة العميقة) في العراق. حاولا تقديم مفهوم عمومي عن الدولة العمومية ،  على وفق نظريات مدارس اليونان ومدارس الامريكان في العلوم السياسية المتصلة بالدولة الظاهرة او المتفرعة عن الدولة العميقة . لم يمارس أي منهما حرية كشف مضامين و مؤسسات و تجمعات و مؤامرات (الدولة العميقة) في العراق و منهجية الأشخاص ، دينيين او غير دينيين ، أو منهجية قياديي الطوائف او الأحزاب الإسلامية الواقفين خلفها.

ـــــــــــــــــــــــــ
القسم الثاني

لم اسمع بمصطلح ( الدولة العميقة ) الا في نهاية القرن العشرين . كان جيلنا يسمع او يقرأ مصطلحاً آخر هو ( دولة داخل دولة ) وهو من نوع التسميات العديدة المشهورة  منذ بدايات القرن العشرين . كنّا مثلاً نرى (  شركة نفط البصرة هي دولة داخل الدولة العراقية ) ، كما كان المناضلون في مدينة العمارة يَرَوْن  ( ان ديوان الإقطاع هو دولة داخل الدولة العراقية ) و غير ذلك من التكوينات القادرة على التحكم بمصائر الشعب العراقي من وراء ستار الدولة الفيصلية. 

هكذا كان كتّاب اليسار و المثقفون الديمقراطيون في العراق و في معظم البلدان العربية  يبحثون عن القوى الحاكمة (فعلياً)  و عمن يقف وراءها سراً . انهم لم ينسوا تحذيرات افلاطون ولا تحليلات لينين بأن (الدولة الظاهرة) لا تتألف فقط من عدد كبير من الموظفين وانما تقف وراءهم ، جميعاً،  اقلية سرية، طبقية،  ذات مطامع متمايزة تتغذى طبقياً و مالياً من (الكل) الاجتماعي الفقير، مكونةً ( الدولة العميقة) بنيرانٍ طبقيةٍ مهلكةٍ ومدمرة. .

من سوابق الطبقات الحاكمة في اغلب بلدان العالم كان البورجوازيون أكثرها ابتداعاً لما يعرف الان بتسمية ( الدولة العميقة ) لأن قادة هذه الطبقة يَرَوْن ان ( الدولة المباشرة ) المهيمنة في اي بلد رأسمالي هي ( دولة ناقصة) لا بد من اكمالها بدولة ( عميقة) او بدولة ذات تسمية  مقاربة أخرى،  لكنها ذات مراكز تراتبية هرمية ، دولة سرية ، لا تكشف عمن يقودها و لا عن مصالحها . تظل (الدولة العميقة) قائدة فعلية  ،  في بعض الأحيان، جميع  الاشتباكات مع قوى اخرى و دول اخرى أو أنها تقود جميع صراعات العمليات السياسية في داخل المجتمع ، لكن عملها و تخطيطاتها تجري  بسرية تامة على المسرح مهما كان حجمه ضخماً و مهما كانت دوامة  حراك ( المؤسسات) او ( الشخصيات) او ( الأحزاب) التي تقف خلفها لضمان ان تكون ( الدولة العلنية) تابعة الى ( الدولة السرية) او بمعنى اخر خضوع ( الدولة المباشرة) إلى أوامر و تخطيطات ( الدولة العميقة ) .. هذا هو الاصطفاف التاريخي الجاري في بلدنا  منذ عام ٢٠٠٣ حتى الآن ، حيث حرصت نخب الاسلام السياسي منذ ذلك الحين على كتابة التاريخ العراقي الجديد من قبل (أسفل) الدولة العميقة ، بالتعاون مع (اعلى ) الدولة  المباشرة .

خلال ١٥ عاماً بعد تغيير النظام الدكتاتوري السابق ظهرت أفكار عن تأسيس الدولة العراقية الجديدة الموصوفة بالديمقراطية ، و هي ليست كذلك منذ ان بدأها الحاكم الامريكي المدني بول بريمر  إذ كان هذا الحاكم محفزاً ، بكل شكل من الأشكال ، جميع  الزعماء الإسلاميين على الامساك القوي بزمام السلطة  و الحصول من خلال ذلك على مكاسب مالية كبرى تفكك مقدرة المدراء و المهنيين  في النظام السابق  وتسهيل البنية الهرمية لظهور طبقة الاسلام الرأسمالي . بالفعل اصبح عدد كبير من قادة الاسلام السياسي مؤهلين بسرعة لقيادة الرأسمالية الاسلامية الجديدة  ، التي تتيح الفرص لتقوية كل مفاصل ( الدولة العميقة) . . يمكن القول ان دولاً (عديدةً ) وبأشكال مختلفة ظهرت بالعراق ، منها دولة مركزية ضعيفة في  المنطقة الخضراء ببغداد ، مبتعدةً، كلياً، عن سماع سمفونية مطالب الجماهير الفقيرة بساحة التحرير  . منها ، أيضاً، دولة متصارعة في كركوك و دولة صعبة في اقليم كردستان ودويلات كثيرات في محافظات متعددة اخرى . بعضها ينطبق عليه صفة (الدولة الطبيعية ) وغيرها متمرد على  الاعتبارات المنطقية في  تبعيتها للدولة المركزية ، لكن جميعها تُخضِع تمرداتها الى ما يقال عنها ، زوراً، بأنه جزء من مكونات العقلانية الديمقراطية  بمقاصدها وافعالها ، بينما ، في الحقيقة، نجد الديمقراطية تستنكف القبول بذلك .  

اول معرفة حقيقية صادقة من معارف ( الدولة الديمقراطية) هي ان يكون تنظيم المجتمع العراقي ، كله،  ومؤسساتها ، كلها، قائمة على أسس الفكر العلماني، إذ لا انفصال بين الديمقراطية و العلمانية . بينما نجد حكام الاسلام السياسي منذ حكومة  ابراهيم الجعفري وحتى حكومة عادل عبد المهدي هي ( حكومات إسلامية) في اصولها و فصولها ، على وفق السمات المنفذة من قبل قادتها للقانون الاسلامي الإلهي،  الذي يسترشدون به حتى على وفق نظريات أية الله الولي الفقيه علي خامنئي . 

لقد سعى حكام احزاب الاسلام السياسي (  ابراهيم الجعفري و نوري المالكي و حيدر  العبادي واخرهم عادل  عبد المهدي)  ان يصفوا الوجود الإنساني العراقي في دولة تظل بحاجة ماسة ، من وجهة نظر قادتها، الى توجيه إلهي ، ليس مباشرة ، لكن بواسطتهم .  سعى هؤلاء الحكام و ما زالوا يسعون الى قيام العلاقة المتينة ، الصلدة، بين ( الدولة العراقية) و ( الدين الاسلامي ) بتفاصيل عديدة أولها كان  صدور قانون منع وتحريم و تكفير الخمور وزواج القاصرات وفرض الحجاب على المرأة ، بالإرهاب الواسع داخل المدارس وخارجها ، داخل الجامعات و خارجها . كما جرى تأويل جميع النصوص القانونية و السياسية لصالح هذه العلاقة بقصد تنظيم المجتمع ، كله، ليس على أساس فصل الدين عن الدولة ، كما الحال في جميع الدول العالمية  المتقدمة باعتبار هذا الفصل ضرورة من ضرورات التطور العربي المعاصر ، كما فعلت الدولة التونسية الحديثة.  أراد جميعهم  لجوء حكوماتهم الى ( الدين) في كل فقرة من فقرات الدولة  و بالتالي فرض ( الدين) على كل صغيرة و كبيرة في شؤون  حياة المواطن العراقي  بكل مرحلة من مراحل حياته . 

اصبح احتكار الاسلام السياسي لكل وسيلة من وسائل  الملاءمة و القابلية للادعاء بالديمقراطية هو تغطية النفوذ الكبير على أسواق المال العراقي ، في بنوك الدولة و في مشاريعها ، لتكون قيمتها جزءاً كبيراً من عمليات الفساد المالي ، التي بدأت مع بداية سيطرة الاسلام السياسي على الحكم و على مؤسسات الدولة برمتها ، حيث يقبع الان خلف القضبان عدد من قادة و أعضاء احزاب الاسلام السياسي  و منهم أعضاء قياديين في حزب الدعوة . 

كما جرى اعتماد  نموذج  ايران على وجود ( الدولة العميقة المسلحة) المتمثّلة  بعناصر جهاز  ( الحرس الثوري) حامي حمى ( الدولة الإيرانية العميقة) ، كذلك سعى منظرو الاسلام السياسي العراقي الى تبني مبدأ ( الدولة العميقة المحمية بالسلاح )، الى جانب ( الدولة الاعتيادية الظاهرة) . كذلك السماح للدولة الاعتيادية في تنظيم حياة المواطنين      الدنيوية .

حكام الاسلام السياسي يريدون من المواطن العراقي نفس الشيء الذي كانت تريده الأنظمة الشمولية منه ، إذ أشار جورج  اورويل  في روايته الشهيرة (١٩٨٤)  الى خطط  الحكام الشموليين في تجليس  المواطن  في بيته بينما الحكام يحكمون ..! حتى يظل المواطن خائفاً من العواصف،  كما يظل الحاكم معتمداً على قابليات المتوحشين في الدولة السرية لحمايته من التغيرات المحتملة.  الاسلاميون السياسيون العراقيون يقتربون من كل سلوك اصطناعي مبتعدين عن كل سلوك ديمقراطي طبيعي ،   يريدون من المواطن ان يعيش في عزلة داخل بيته ، يأكل و يشرب و يصوم و يصلي  و يمارس الجنس ، مصغياً الى ما يقوله الحاكم الاسلامي و منفذاً لنصائحه . كذلك يريدون للدولة العميقة تنظيم شؤون المواطنين بأوامر الله في الحياة الدنيا و في الحياة الآخرة . اي انهم يربطون ( المعرفة السياسية) بـ( المعرفة الدينية) في محاولة أكيدة منهم، كي يظل تفوقهم وتفوق شيوخهم وسادتهم المعممين على الجماهير غير الواعية،  يقدمون لها الوعظ  لتجنيبها شرور الناس (غير المتعبدين)  و خطايا الناس (غير المؤمنين) ،  لكن بأساليب الاقطاعيين.   

لكي تكون هاتين الرابطتين للدولتين بلا موانع ، من اي نوع كان،  فقد امتلكت احزاب الاسلام السياسي في العراق- مثل نظيرتها في ايران - مقدمات و مبادئ و معايير معاني الميليشيا في امتلاك السلاح الخفيف و المتوسط و الثقيل ، خارج نطاق الدولة الظاهرة ، لحماية جميع مصالح و فعاليات و دلالات الدولة غير الظاهرة ، ( الدولة العميقة). بالفعل توجد ، الان، في العراق مقدمات ضرورية لتطوير جيش الدولة الاولى و قواتها المسلحة على وفق المعايير الاخلاقية و السياسية المتبعة بكل دولة ظاهرة .كما انها  تلجأ الى توفير و اشتقاق المعايير الضرورية لتعزيز قوة الميليشيا السرية بكيفية مسلحة ضمن أطروحة تبعيتها الى ( الدولة العميقة)،   التي توفر ، من وجهة نظر الاسلام السياسي ، التوجيه الالهي - الديني المطلوب لرعاية المواطنين ، المتعبدين القابعين في بيوتهم . 

لا فرق  بين الاطروحة البعثية لوجود ( الدولة المخابراتية ) القمعية في  عقود حكم النظام السابق و بين الاطروحة الاسلامية - السياسية في النظام الحالي . كان الوجود الفعلي  لمضمون الاطروحة الاولى قد قام على حماية نظام صدام حسين و ليس لتطوير الوطن و رفع مستوى معيشة الناس ، مثلما يقوم ، الآن، الوجود العملي لأطروحة الاسلام السياسي في شأن  الدولة الاسلامية العميقة لحماية  قدسية نظام الاسلام السياسي نفسه ، لكي تتحول الأصعدة الطائفية الى اصعدة قانونية  - أخلاقية متميزة عن السلطة الزمنية بالدين و بالعناية الإلهية  . كان الوضع السياسي - القانوني العام في دولة الدكتاتور صدام حسين شبيهاً  بالوضع السياسي العام في عصر حكومات الاسلام السياسي حين جعل المواطن العراقي عاجزاً عن تطوير نفسه ، ثقافياً و معاشياً و انسانياً . اذ استخدم اصحاب الاطروحة الحالية نفس الخطط و نفس البرامج الذكية و نفس التصاميم لكي تكون ( الدولة العميقة) هي المكون الجوهري في تصميم و تحديد مسيرة المجتمع تحت نظام رقابي صارم .

من الضروري القول الأخير ان الدولة العميقة المخابراتية في زمن صدام حسين لم تستطع حمل أمانة الدفاع عن الوطن و عن الشعب العراقي ، كذلك فأن الدولة الاسلامية العميقة في زمان الاسلام السياسي لا تستطيع غير الدفاع عن مصالح مؤسسيها .

ختاما أقول ان الدولة العميقة ، الطائفية او العائلية او العشائرية ، مهما امتلكت من القوة الاقتصادية و المالية والسلاح فأنها لن تتمكن بكل ما تملكه ان تسيطر على روح المواطنين و على سلوكهم الى الابد لأن افضل اشكال الحكم كما اثبتت تجارب اغلب بلدان العالم هي (الدولة العلمانية) الحرة من أي قيد سماوي  لأنها دولة الشمس،  دولة الشفافية ، دولة الديمقراطية الحقيقية ، التي ترتاح في ظلالها الجماهير الشعبية .  كل نوع من انواع الدولة العراقية العميقة لا تستطيع تحقيق امال الشعب في التقدم و التطور وفي ضمان لقمة العيش الكريم و بناء المدارس و المصانع  و المسارح و دور السينما و مجمعات ثقافية كبرى .  أنها دولة لا تتفق مع طبيعة الانسان المحب للحرية ، لذلك فأنها الدولة الزائلة ، عاجلاً أو آجلاً.

جميع احزاب الاسلام السياسي اعتمدت على ارقى وسائل الثورة التكنولوجية في ترسيخ عملها و بالتالي في تقوية اعلامها لضمان الصِّلة التامة بين  غايات   و توظيفات الاسلامي السياسي و غايات  و توظيفات تنظيمات الدولة العميقة. 

وصلت توظيفاتها الى تقنية الأقمار الصناعية العالمية واولها وسائل الاتصال و ثانيها قنوات البث التلفزيوني . كل فترة من الفترات تزداد القنوات التلفزيونية لتقوية البنية التحتية 

الإعلامية الاسلامية  على ارقى وسائل إيصال المعلومة الى كل مكان في العراق من قبل احزاب الاسلام السياسي المتعددة و من قبل موازين قواتها  الميليشياوية ، كما تدفقت التقنية التكنولوجية في جميع المكاتب و المقرات و القاعات ، من خلال موارد النفط ،  لخلق تنافس قادر على وقف الاعلام العالمي المضاد ، لكن ليس مؤكداً انها تستطيع تحقيق مثل هذا الهدف،  اعتماداً على جرد واقع الحياة الاجتماعية في كل قرن من القرون السابقة وفي كل بلد من بلدان العالم ، حيث البرهان الدامغ ان جهود البشر من اجل حريتهم و كرامتهم وقيمهم الأخلاقية ومنافعهم الإنسانية تجعلهم ، أولاً و أخيراً يلجون  الى العقل و بصيرته وليس الى نقيضهما  . 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 12 = 12 = 2018

عرض مقالات: