كانت المتعة التي تدخلها الموسيقى للانسان العربي او الشرق اوسطي الناطق باللغة العربية في بدايات القرن العشرين الماضي، سمعية فقط، تتولد من الغرامفون او الاذاعات لاحقاً، وهذا ما حدث لرواد الغناء والموسيقى في العراق، امثال صالح الكويتي وشقيقه داود، وزكية جورج وصديقة الملاية ومنيرة الهوزوز، وكذا الامر لرواد الغناء الريفي في العراق كداخل حسن وحضيري ابو عزيز وناصر حكيم ومسعود العمارتلي. الا ان التطور الذي طرأ على العالم من خلال الابتكارات المتعددة مثل السينما والتلفزيون وصولا الى الفيديو كليب، ساهمت في نشر تلك المتعة بشكل اوسع وأعم وتحدد فيها ملكتي السمع والنظر.
وقبل ذلك، لم يكن المواطن العراقي في الجنوب والشمال، كما هو شأن اخوانه البدائيين في سائر اصقاع العالم ليجد صعوبة في ادراك المعنى الذي يرمي اليه الناي والدف والرباب، كأول الآلات الفطرية الموسيقية التي تصاحب الغناء، لا ضمن الظاهرة السامية للحياة المادية حسب، بل في تفهم الرمز الامثل للحياة الروحية ايضاً. وذلك لانه لم يكن في وسع هذا المواطن ان يضع فاصلاً بين النشيد من ناحية، وبين العبادة والحب والزرع والقنص والخصب واستمرار الحياة من ناحية أخرى، بعد ان عرف ان الغناء والموسيقى والرقص يأتي بالمعجزة.
كان الغناء العراقي في اعتبار الاوائل حاجة ولم يكن خطيئة، كما كان في اعتبار فئة معينة منهم. ولم يكن كذلك مجرد انحراف مسار، كما هو اليوم للبعض من المتزمتين المعاصرين. انه كان اكثر من ذي طابع محلي وأكثر من ذي أهمية ثقافية وحضارية. لقد كان عنصراً جوهرياً للحياة ذاتها، فليس اعتباطاً ان يقول كونفشيوس منذ آلاف السنين: "اذا اردت ان تتعرف في بلد ما على ارادة شعبه ومبلغ حظه من الحضارة والمدنية فاستمع الى موسيقاه". وليس بمستغرب ان يصرح بيتهوفن:"الموسيقى وحي أسمى من كل حكمة، ومن كل فلسفة".

مرجعيات اولى في الطرب

يعتبر الكتاب المقدس مصدرا مهما عند الخوض في تاريخ الموسيقى، وكل ما كتب من البحوث في هذا التاريخ لا يتجاوز ما قد ورد في النصوص الغنائية والقصصية في الكتاب المقدس وهو ما زال مصدر إلهام لاجيال من الملحنين والموسيقيين والشعراء كنشيد الانشاد ومزامير داود وآلام السيد المسيح وغيرها، خصوصا في العالم الغربي حتى الوقت الراهن. وقد وجدت هذه النصوص صدى كبيراً عندما تتضمنها الاغاني الشعبية في الكثير من بلدان العالم. وقد بيّن الباحثون استنادا الى "العهد القديم" في الكتاب المقدس اصول لفظة "موسيقى" ذاتها ومنها: "اتصل موسى بالله في صحراء سيناء، فجاء جبرائيل وقال له: اضرب بعصاك، فتنفجر 12 بئراً من الماء واحدث كل منها صوتا عذبا مختلفا، فكانت اساس المقامات التقليدية التي هي "12" مقاماً. وأمر جبرائيل موسى ان يسقي الاسرائيليين ماء قائلا: "يا موسى إسق.. فجمعت الكلمتان ونتج عنها تسمية الفن الذي نعرفه. موسيقى".
بينما تؤكد الاكتشافات الاثرية التي وجدت في جنوب بابل وخورسباد والاكتشافات التي وجدت جنوب اور التي عثر من خلالها على السلم السباعي الاكدي المفقود منذ 5000 سنة على وجود القيثارة السومرية التي اكدها قاموس الكتاب المقدس في طبعته السادسة عام 1981. فالقيثارة السومرية هي آلة الطرب القديمة التي استعملها الساميون قبل المصريين، حيث ان الآثار المصرية تبين ان الضاربين بالقيثارة كانوا من القوم الساميين.
ويثبت لنا تاريخ الموسيقى وخبراؤها، ان المحاولات الاولى في كتابة الموسيقى كانت غنائية، أي محددة في تأليف الميلوديا للحنجرة البشرية، أي التأكيد على الصوت البشري، إذ اقتصر دور الآلة الموسيقية على مساندة المغني حيث تعزف له اللوازم الموسيقية، ولا يخرج دور الآلة سوى المصاحبة للمغني. وفي هذا الشأن يقول الاستاذ الباحث علي الشوك في كتابه "الموسيقى بين الشرق والغرب" استنادا الى مصادره: لقد ورد اقدم ذكر للموسيقى العربية في نص آشوري يرقى الى القرن السابع ق.م جاء فيه: ان الاسرى العرب كانوا يغنون اغاني الكدح ويعزفون على نحو اخذ بمجامع قلوب اسيادهم الآشوريين، فكانوا يطلبون منهم المزيد".
وفي الحجاز، كما يقول الاستاذ الشوك ايضا كانت الموسيقى مزدهرة بعض الشيء قبل الاسلام، حيث كانت عكاظ مركزا يتوافد اليه الشعراء والمغنون، وفي مكة كانت العبادة تقترن بالتهليل والتلبية. وكان عرب الجاهلية يطوفون حول الحجر ويغنون. وفي تلك المرحلة كان الغناء يؤدى على طريقة الترجيع والجواب حيث تؤدى حروف المد بطريقة الترعيش. وكان الايقاع يضبط بواسطة آلات القرع كالطبل والدف والقضيب. ويضيف ان الزخرفة اللحنية والتلوين في الايقاع، كانا ولا يزالان من السمات المتميزة في الموسيقى العربية. وكانت موسيقى الفرح هذه تصاحب الراقصين الذين خيطت ملابسهم بالجلاجل زيادة في ضبط الايقاع والاطراب، وهي ظاهرة كانت امتداداً لطقوس دينية قديمة، على نحو ما كان يفعله اليهود والكنعانيون.

المليحة في خمار اسود

لقد شاع الغناء اول مرة في الحيرة لانها مجامع اسواق العرب ومراكز تجارتهم وفيها يلتقي العربي مع اليهودي والمسيحي، فمن الطبيعي ان تقام مجالس اللهو وترتفع فيها اصوات القيان بألوانها المختلفة ذات الالق الاثني. ثم انتشر الغناء في الحجاز واليمن والبحرين. ولقد كان للموسيقى الفضل الكبير في تطوير بعض الاوزان الشعرية في بلاد العرب، حيث نظم الشعراء اوزاناً تناسب التأليفات الموسيقية مما ساعد على خلق اساليب جديدة للتعبير في الموسيقى ايضاً.
وثمة طرفة يرويها الاصمعي تتعلق بالجدلية المستمرة بين الكلمة والموسيقى، ايهما اقدم او اهم؟ فمن قائل يؤكد ويعظم دور الكلمة اولاً، ومن يرد بأن الموسيقى هي التي حددت ملامح الكلمة، ولكي تقرب المعنى الصادق اضيفت الموسيقى الى الألفاظ. قال الاصمعي: قدم عراقي بعُدِل "كيسان متوازيان على الناقة" من خمُر العراق "جمع خمار بضم الخاء" الى المدينة فباعها كلها الا الخمر السود، فشكا ذلك الى الشاعر المعروف "مسكين الدارمي" وكان هذا قد تنسك وترك الشعر ولزم المسجد. فقال: ما تجعل لي.. على ان احتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها على حكمك؟ قال: ما شئت، قال: فعمد الدارمي الى ثياب نسكه، فألقاها عنه وعاد الى مثل شأنه الاول، وقال شعراً ورفعه الى صديق له من المغنين، فغنى به:
قل للمليحة في الخمار الاسود
ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه
حتى خطرت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه
لا تقتليه بحق دين محمد
فشاع هذا الغناء في المدينة وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشق صاحبة الخمار الاسود، فلم تبق مليحة في المدينة الا اشترت خماراً اسودا، وباع التاجر جميع ما كان معه، فجعل اخوان الدارمي من النساك يلقون الدارمي فيقولون: مذا صنعت؟ فيقول: ستعلمون نبأه بعد حين. فلما انفذ العراقي ما كان معه رجع الدارمي الى نسكه ولبس ثيابه.

المنخل الذي لا يملأ البحر

استعير هذا العنوان من مقالة فقيدنا الشهيد قاسم عبد الامير عجام المنشورة في "طريق الشعب" عام 1977 – لا اتذكر تاريخ الاصدار تماما – وكان عنوانها الكامل "غناء.. غناء.. ولكنه المنخل الذي لا يملأ البحر" حينما صبّ جام غضبه على اكثر من ظاهرة غنائية قبيحة كانت تتردد في دائرة الاذاعة والتلفزيون وقتذاك، ومنها الالحاح المستمر في بث اغنية "ليالي الانس في فيينا" بصوت وصورة المطربة المغربية عزيزة جلال، مع الالحاح ذاته على بث اغاني الغجر "حمدية صالح وثلتها" واغاني البادية بصوتي جبار عكار والملا ضيف الجبوري واغاني سعدي الحلي.
ولأنني كنت جد قريب من صديقي عجام، بحكم الزمالة التي تربطنا في القسم الثقافي لـ "طريق الشعب" فضلا عن زمالتنا الاخرى في كلية الزراعة – هو في دراسة الماجستير وانا في البكالوريوس – فقد استكثرت منه هذا الهجوم اللاذع على اغانينا العراقية الجميلة بأصواتها الريفية المتجددة والحضرية الراهنة منذ اغاني الخمسينيات والستينيات بألحان واصوات عباس جميل ورضا علي وسمير بغدادي واحمد الخليل ويحيى حمدي مع عفيفة ومائدة وزهور ووحيدة وانوار، وغيرهن وغيرهم. مذكرا إياه بأن مشهدنا الغنائي والموسيقي هو نتاج الدراسة والخلاصة المقطرة لمعاهد الفنون الجميلة والدراسات النغمية وفرقة الفنون الشعبية وبيت المقام العراقي. ثم عرجت على الالحان الجميلة للقره غولي واموري والسيد وكوكب والسماوي وفرحان، والاصوات الاثيرة لحسين وياس وفؤاد وفاضل وسعدون ورياض، من دون ان يطرف لصاحبي الراحل جفن او حركة من معصم، حتى استوقفني بكلمة – مهلا – بهدوء عذب وعينين مبتسمتين قائلاً: "وصل خطابك، وصلك الله بالخير وجعلك من اهله. ولكنك يا عزيزي لم تدرك ابعاد تسييس اغنيتنا العراقية بعد".
-
وهل من امثلة يا أبا ربيع.
-
بلى.
واضاف: ثمة توجه متخلف ومدرك على تهميش طابع المدنية والتمدن في الاغنية العراقية من خلال ترييفها وتصحيرها بالحاح من رئيس الجمهورية احمد حسن البكر لتنشيط ذاكرته البدوية القديمة قبل ان يكون عسكريا متنفذاً في انقلاب 8 شباط و 17 تموز، وهذا ما يردنا من العاملين في دائرة الاذاعة والتلفزيون. اما إلحاحه الآخر على اغنية "ليالي الانس.." بصوت عزيزة جلال فلا تفسير لي الا هاجس "الشيخ الذي يعود الى صباه" ولو كان شابا او فنيا لأرغم الدائرة المذكورة باعادة بث الاغنية بصوت وصورة اسمهان الاصلية من جديد. واضاف تذكر ان الاستاذ فاضل ثامر هو اول من اعترض على البث المجاني المستمر لهذه الاغنية من خلال عمود شبه سياسي في جريدتنا قبل ان اكتب مقالي الاخير.
وحول اغاني الغجر التي ازدهرت وقتذاك بأصوات حمدية صالح وساجدة عبيد وسورية حسين فيعتقد انها من مكابدات "النائب صدام حسين" وابناء عمومته في الحنين الى خيام الغجر والرقص تحت ايقاع الطبل ونوح الرباب، من دون وعي حصيف لتطورات الفن الغنائي العراقي والعربي والعالمي.

وماذا عن اغاني سعدي الحلي يا أبا ربيع؟

قال: هذا شأن آخر لا علاقة له بنقدي للاغنية العراقية الراهنة، لأن الحلي من معارفي ومن ابناء مدينتي الفيحاء. ولكن دوائر الامن والاستخبارات تتابع حفلاته الشعبية في الاعراس والمناسبات لتسجل له كاسيتات صفيقة ماجنة، حينما يسكر ويتعتع كما يفعل قارئ المقام العراقي يوسف عمر في حفلاته الخاصة المعروفة، وكانوا يشيعون هذه الكاسيتات سرا وعلانية في المقاهي ومحال التسجيلات من دون ان يسمحوا لدائرة الاذاعة والتلفزيون ببث اغانيه العاطفية الشجية الا بالقيراط.
وبعد ..
كان شوبنهاور يرى ان الموسيقى لغة الشعور، والكلام لغة العقل. ويؤكد نيتشه انغماره الدائم بالموسيقى قائلا: "بدون الموسيقى حياتي خطأ". في حين هناك مثل اسباني يمتدح الفنان الموسيقي بالقول: "للفنان قلبان، قلب يعزف وقلب ينزف".