قبل يومين تحدّث زملائي في الدائرة عن تدهور التعليم ، وعدم استيعاب الطلاب للمادة بشكل دقيق، حيث تراهم يخطئون بالإملاء والنحو ومعلوماتهم قليلة جداً. كما تحدّثوا عن برود العلاقة وانعدامها بين المعلم وتلاميذه، وما حدث بين محافظ الموصل واحد المعلمين .. أثناء حديثهم هذا أخذتني سرحة إلى أواخر الستينات وبداية السبعينيات من القرن الماضي حينما كنت طالبا في مدرسة (الخليج العربي الابتدائية ) التي تقع عند نهاية جسر ( حوز ال حويدر ) في جنوب الفاو ، أقصى جنوب القلب ، وكيف كنّا نتسابق لاستقبال معلمينا صباحا وظهرا حسب وقت الدوام .. وننتظرهم على الجسر لنأخذ دراجاتهم الهوائية التي يستقلّونها من محل سكناهم في مركز القضاء إلى المدرسة. كنا نقتسم المعلمين بيننا ، ( أستاذ عواد معلم العربية ودراجته السوداء لي ، أستاذ ناجي معلم الاجتماعيات ودراجته الزرقاء لزميلي ، أستاذ عدنان معلم الانكليزي ودراجته الحمراء لزميلنا الآخر ) وهكذا!
كان المعلم يأتي مهندما ببدلته السموكن وربطة عنقه وحذائه ( القبغلي) اللمّاع ، يترجل من دراجته فوق الجسر لنركض متنافسين للحصول عليها وتقديم التحية له .
كنا نعتبره الأب الثاني لنا ، نُجِلُّهُ، ونهابه ونحترمه أيما احترام ، كذلك كان يبادلنا التقدير والشعور ذاته ويحثّنا على الدراسة وتحضير الواجب. يعطي جلّ وقته لنا كي نستوعب المادة بالشكل الأمثل ، إضافة إلى جلبه وسائل إيضاح لإيصالها بدقة أكثر إلى عقولنا. لهذا ما زالت علاقتي بالأستاذ فاضل صالح علاقة الابن مع أبيه ، اجلّه واحترمه واقف أمامه بكل خشوع!
زرعوا في نفوسنا بذور الخير من خلال علاقتنا بهم وهيبتهم التي ازدادت وظلت لحد هذه اللحظة تكبر وتسمو.. وحينما كان أحدهم يبصرنا في السوق أو في الشارع نمشي أو نلعب، فلن نذهب في اليوم الثاني للمدرسة إلاّ ومعنا أحد أولياء أمورنا ليشرح للمعلم انه أرسلنا لشراء حاجة ما ، لأننا بدون ذلك سنقف أمامه للحساب والعقاب.
هذه العلاقات نفتقدها اليوم بين التلاميذ ومعلميهم وبين أولياء الأمور وإدارات المدارس. بدأت هيبة المعلم بالانحسار تدريجياً منذ ثمانينات القرن الماضي وصولاً إلى يومنا الحاضر لأسباب كثيرة ، منها الحروب وما فعله الحصار وسوء المعيشة واحتياج المعلمين وعوزهم حتى وصل الحال ببعضهم أن يفتح ( بسطات ) لبيع السجائر وغيرها على الأرصفة. إضافة إلى عدم اهتمام الطلاب بدروسهم ومعلميهم نتيجة تلك الظروف وما تلاها من أمور أخرى ، ناهيك عن إثراء البعض من أولياء الأمور دون معرفتهم الحقيقية بمعنى التعليم وأهميته وقدسيته وعدم اهتمامهم بأبنائهم وعدم نصحهم بماهية التعليم والمعلم وقيمته.
أعدت الكتابة عن هيبة المعلم الذي يقف له العالم بإجلال وإكبار، حينما شاهدت ما جرى بين المحافظ والمعلم ، حيث أصابني المشهد بالقنوط واليأس من تطور التعليم حقاً .. لا المحافظ يحتفظ باحترامه وإجلاله للتعليم و للمعلم ، ولا المعلم يحتفظ بهيبته وعزته وكبريائه وشموخه يا للأسف!