في العاصمة الألمانية برلين أقيم من 20 ولغاية 22 أيلول 2018 "أيام الموسيقى العربية" الثاني الذي ينظمه "الديوان الغربي الشرقي" في مسرح بيير بوليز التابع لأكاديمية "دانيال بارنبويم ـ إدوارد سعيد" والتي تأسست في العام 2015.
مهرجان هذا العام تضمن فعاليات شعرية وسينمائية ومعرض تشكيلي إلى جانب البرنامج الرئيس للموسيقى، حيث استضاف فرقتين موسيقيتين عربيتين وفرقة عالمية ثالثة ترأسها الموسيقار العراقي الفنان المبدع نصير شمه الذي أشرف على إعداد برنامج المهرجان.. ولا بد من الإشارة إلى أن الجانب المتعلق بعروض الأفلام القصيرة والموسيقى ترك لدى الجمهور إنطباعات قيمة تفسر ماهية مد الجسور بين المجتمعات والثقافات المختلفة.
ولدت هذه المؤسسة في عام 1999 عندما قام الصديقان الحميمان عازف البيانو الشهير" دانيال بارنبويم" والمفكر الفلسطيني وأستاذ الأدب الأنكليزي المقارن "إدوارد سعيد" في فايمار الألمانية بتأسيس أوركسترا "الديوان الغربي الشرقي" للجمع بين موسيقيين عرب ويهود وغيرهم من الجنسيات، وكان الرجلان على قناعة بأن السلام في الشرق الأوسط لن يتحقق من خلال العمل العسكري، وكرسوا أنفسهم للبحث عن أساليب بديلة لإيجاد حل سياسي من أجل السلام.. وامتداداً للمنجزات والمهام التي حققتها بشكل ملموس "أوركسترا الديوان الغربي الشرقي" دعا المؤسسون وكبار الشخصيات من الاوركسترا إلى تأسيس "أكاديمية ـ بارنبويم ـ سعيد" وتم افتتاحها في عام 2015 لتقوم بتدريب الجيل الجديد من الموسيقيين الشباب.
يذكر أن دانيال بارنبويم قد كتب جنبا إلى جنب مع ادوارد سعيد كتاب "المتوازيات والمفارقات" الذي يتناول بشكل فكري ـ فلسفي الموسيقى والمجتمع.
وتكتسب الفرق الفنية المشاركة في أيام الموسيقى العربية في برلين العديد من التصنيفات، وتمتاز بخصوصيات تغدو فيها اللغة الموسيقية التعبيرية أنماطا تحاكي العالم الافتراضي الذي تتغير فيه الأشكال والأحداث بشكل انسيابي خارق.. فالمغني والملحن عازف العود الفلسطيني الفنان منعم عدوان، لم يقرب خلال عرض الافتتاح المسافة بيننا وبين الأرض الحلم "فلسطين" أو يجعل المؤثرات الموسيقية تجنح وسط السكون هادئة تلامس حنايا الوطن. إنما أخذ بنا مع فريقه المكون من الفنانين: المغربي عازف الجيلو ياسر بوسلام، الفلسطيني عازف الدربكة يوسف زايد، التونسي عازف الكمان زياد الزواري، وعازفة الكونترباص ليلى سولدفيلا، إلى مختارة من الأغاني العربية والأغاني الصوفية من قصائد مختلفة لجلال الدين الرومي والشاعرالفلسطيني الراحل محمود درويش: كلتا الصورتين تلمسان المشاعر وتصل مباشرة إلى القلوب - الرومي في الفلسفة ودرويش في الموسيقى.
أما الفنان المصري المبدع بسام عبد الستار وفرقته المكونة من "عازفي القانون" المكونة من خمسة من طلابه الشباب من مختلف الجنسيات العربية والذين يتدربون في بيت العود بإدارة الفنان نصير شمة في أبو ظبي: ليلى عبد الباقي، حامد الشيخ، مريم عبد الباقي، هنا بخرز، ياسمين منصور، الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و 17 عامًا، قدموا صياغات موسيقية رائعة من العالمين الشرقي والغربي، بالإضافة إلى القطع الكلاسيكية والحديثة، بما في ذلك التركيب المنفرد لكل منهم بتقنيات جديدة ولعب بعشرة أصابع على غرار البيانو، تبعث أصواتًا رومانسية منتظمة تكشف عن الروابط التقنية والصوتية بين الآلتين.
في قاعة "بيير بولز" المصممة على شكل دائري كالمسرح الإغريقي أو الروماني، ذات السقف المقوس والعالي الذي يعبر عن الارتقاء نحو السماء، صدحت أنغام الموسيقى في الليلة الأخيرة للمهرجان مع الفرقة الرباعية العالمية بإدارة عازف العود العراقي الفنان المبدع نصير شمه وأربعة فنانين عالميين: عازف الغيتار كارلوس بينيانا ولاعب الطبلة ميغيل أنجيل من إسبانيا. وعازف السيتار المبدع أشرف شريف خان ولاعب الطبلة شاهباز حسين ، كلاهما من باكستان.. وشهدنا حوارا حميما بين أدوات من عوالم مختلفة، تجمع بين ارتقاء اسلوب العزف والجماليات الموسيقية، التي لا تغادر الأناقة و"طقوس الرجولة أثناء العزف على الآلة، ولعبة اللحن على الواقع الافتراضي" ووفقاً لاعتقاد الفنان شمه عندما سألته: كيف لموسيقى أن ترتقي بكل هذه الروعة إلى عمق السماء مع اختلاف الآلة والجنس؟ أجاب: بأنه لا توجد موسيقى شرقية أو غربية، ولكن موسيقى فقط.. إنه التعاون بين هؤلاء الموسيقيين الاستثنائيين الذي مازال قائما منذ 18عاما! المفصل المهم في اعتقادي، أن من يستمع إلى ألحان موسيقية فيها الكثير من الرمزية ويستمتع بسياقاتها الجمالية، سيدرك بأن "الموسيقى ـ لغة عالمية" متعددة الثقافات.. إن المقطوعات الموسيقية المتنوعة التي أمتعتنا بها الفرقة هي نص ما كتب وكأنها روحية مستوحاة من أحلام وردية كأساطير الشرق، إنما وبكل تأكيد سيكون لها تأثير على الفن والثقافة الأوروبيين.
مهم أيضاً، أن الفنان شمه استطاع أن يدفع لإضفاء طابع التنوع، وأن تحظى السينما العراقية في فعاليات هذا العام بقدر من الأهمية، لمعرفته بأن الموسيقى والفيلم نظيران للمعرفة ولها سطوة كبيرة في التأثير والتنوير الفكري. وعلى قدر أهمية الفن التشكيلي وأدب الشعر، إلا أن الموسيقى والفيلم كانا الأقرب لمشاعر المتلقين، لما لهما من مؤثرات حسية وجمالية تختلج النفوس بيسر.. والجدير بأن مهرجان الفيلم "3 دقائق 3 أيام" يقام سنوياً منذ عام 2013 في بغداد، في اليوم الثالث من الشهر الثالث حيث تُعرض أفلام قصيرة لمدة ثلاث دقائق من قبل فنانين شبان.
تم خلال أيام الموسيقى العربية لهذا العام عرض مجموعة مختارة من عشرة أفلام حائزة على جوائز. كان لي شرف إجراء حوار مفتوح أمام الجمهور بعد انتهاء العرض مع الفنان حكمت البيضاني المخرج العراقي ومؤسس المهرجان السينمائي"3 دقائق 3 أيام"، وأحد المشاركين الفاعلين في أيام الموسيقى العربية. وبتقديري إن العروض السينمائية أثارت الاهتمام واستطاعت أن تقدم قراءة مفصلية للاوضاع العامة في العراق.
عموماً الأفلام الـ 10: "وتر" حسن حافظ "مصور بغداد" مجد حميد "ألحان ليلية" كيان أنور، "انسجام" ميثم خلف "دقائق" عباس هاشم "مهن" رامي غانم حميد "مزمار" عباس عبد الواحد "دمية" علي طالب "الدرس الأول" حسنين شبر و"ضوء" لـ مهدي لطيف ـ بشكل عام تعبر عن لسان حالها بوضوح. موضوعياً، تبحث جميعها عن حلول لحفظ كرامة الإنسان المعدم اقتصاديا وأمنياً، ولا تحتاج الى شرح بقدر ما تجعل عامل الزمان والمكان يتوسط مسرح الحدث لمواجهة ما يعترض مصير الإنسان ومستقبله.. ثلاث دقائق كافية لاستنتاج أفكار وعوالم ترصد الصراع بين الحياة والموت، البحث عن السلام بدل الحروب وتفاقم القلق والخوف والعنف. وفي النهاية فإن جميع الأفلام تستقرئ ما للثقافة والفنون من أهمية في الحياة العامة للمجتمع، كما أنها تعبر عن الحالة السياسية والفكرية والأمنية والاقتصادية التي أصبحت غير استثنائية في بلد كالعراق. إنما البحث عن البديل المرجو مازال بعيداً، الذاكرة فقط، الحاضر الغائب الأقوى الذي يتصدر المشهد!
إن الافلام العشرة "تمثيلية كانت أم رسوم متحركة" من وجهة نظري تتمتع بمواصفات جمالية ولغة سينمائية وفنية متعددة الاشكال والمضامين والأفكار. ولا تخلو من مهارات إبداعية تعبيرية وتقنية خلاقة، كالرمزية ورقي الموسيقى التصويرية. لكنها إلى حدٍ ما لا تعبر بالضرورة عن رغبة المشاهد، بالقدر الذي يراه السينمائي وفقاً لحيثيات الفيلم الفنية والتقنية والسيميائية، وقد يؤخذ برأيه أو قد يرفض.

عرض مقالات: